قصة

وَرَقَةٌ بِمَائه

عبدالعال الشربينى

أسندّت رأسَهَا إلى زُجَاجِ نَافِذةِ سيارَةِ الفِرَار، والَّتىِ لَمْلَمَّتْ فيها أشْلَاءَها على عَجْلِ، وبقَايّا تجارتِهَا الحَلال والَّتىِ ترجو ألّا تبور، حتَّى تبحثَ لها من جديدٍ على يقطِينَةٍ تستَكمِلُ تحتَهَا الشِفَاءُ.
ارتَحَلَ بها شَريطُ الذكرَياتِ المُخْتَلط فيه الطازجُ بالمُعًتَقِ من حَيَاتِهَا، وفى القَلبِ منه أحداثُ اليومِ، والَّتىِ على بَسَاطَتِهَا الظَاهِرَةُ قد حَمَلت دمّهِا للغَلَيَانِ، وخَلَايَاهَا للإرتِجَافِ، وذهنهَا للشرُودِ، وكِيِانّهَا لِمَا هِىَ فيه الأن من فِرَارٍ.
كعادتها المُستحدَثَة هذه الأيام، أوت صباح اليوم، لِذلك الركنِ الظليلِ، خَافِتِ الضوءِ، قَليلِ الصَخَبِ،من الميدان، مُفترِشَةِ الأرضَ ببضَاعَتِها الفَقِيرَةِ ـ والَّتى يَكْفِيهَا عَائِدُهَا مُؤْنَةُ سُؤالِ اللَئِيمِ ـ بعدما خَلعت نفسَهَا من الدُنْيا وتَرَكْت زُخرُفَهَا وراءَهَا، توْطِئَةً لِمَلْكِهَا أمرَهَا مرّةً أُخرَى على طَرِيقِهَا الجديدِ.
انْتَصَفَ النّهَارُ … وتلقت من يدِّ الشَارِى ورقة المَائه التى أنقدّها ايّاها، رَفَعَت وجهَّهَا لِتستْمْهِلَّه أنْ تذهب للمحل المجاور حتّى تأتيه بصرفها، غَابْت بُرْهة وعادت لكنَّها لَمْ تجدّه ! ، بحثتْ وبحثتْ دُونَ أثرٍ له مما أثار عجبها وحيرتها… 
مع برقة تفكير سطعت في الذهن، عِنْدها اجتمعت ورقةُ المَائه بوجهِ الرَجُلِ وأسعفَتْهَا الذَاكِرَةُ فتساءلت : 
– أليس هُوَ… ؟! 
ورَاجَعَهَا الصَدَى : 
– بَلَى ، إنّه ذلك الرجلَ الذى كثيراً ما ألقىَ حولِى مع غيرهِ عشراتَ الأوراقِ من ذاتِ المائهِ تلك،
وتدفق تيار الذكريات ليوجعها بما حاولت إغراقه في تلابيب النسيان، وما فتئت تهرب منه كهرب ناج من حمم بركان يلامس كعبيها أينما توجهت،
تجسد وجه الرجل، والذى مازالت وخزاتُ يدّهِ والأخرينَ تلسعُها ـ كلمَّا تذكرتَها ـ وهى تلتصقُ بلحمها مُتَنَكرةً فى شكلِ أوراق المَائه تلك … ؛ .
انهارت جالسةً للحظاتٍ، أخذتَهَا فيها الرعشةُ، وتملَكَهَا الخوفُ، وضَاقت بها الدُنيَا وهِىَ تَصرخُ فى صدرِهَا: 
– أيكونَ قد رأنى هذا الرجلُ اليومَ ـ كمَّا أعتاد أن يَرَانِى أيامَ الشقاءِ ـ عاريةً إلّا من غُلالاتٍ تُفْصْحُ أكثرَ ممَّا تَسْتُرُ ؟ .. 
– هل طَفْت ذَاكرتُه بذلك الخِضَاب المُبَهرجِ الذى سَكَنْتَهُ سنواتِ الضَيَاع لِيَستَخرجَ من السُكارَى وأشباهِ الرجالِ أسوأ ما فيهم : الشهوةُ؟!… 
– هل جَسَدّت لهُ ذَاكرَتَهُ اِرتَعَاشَاتِ جَسدّى وتلوّى عُودّى، وأسمعَتهُ أُذُنّاهُ مرّةّ جَدِيدَةٍ فَحِيحِى تحتَ تلك الأضْواءِ البَاهِرَةِ والَّذى أسْمْوْه تَأَوْهَات؟ 
– هل حَدَثَ كلُّ ذلكَ رُغُم كلَّ مَا أتَدَثْرُ بهِ اليومَ منْ أكفانٍ ولمْ أنْطقْ إلَّا بكلمةِ : انتظر بُرهة؟ 
– أيكون ؟ .
أفَاقْت منْ سيَاحَتِهَا على العَرَقِ يغمُرَهَا، وحُمْرَةِ الخِزْىِ تصْبِغُهَا، و صَوتِهَا يَصْرُخُ فى سائقِ السيَارَةِ:
– أنْ أسرعَ ، 
وأردَفْت فى نفْسِهَا: 
– لَعلَّ المدينةَ التاليةِ تكونُ هى أرضُ صحيحَ التوبةِ وقبولَ الرجاءِ .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى