قصة

قهقهةٌ في وادي الموت.

ليلى عبدالواحد المرّاني 

دقّت طبول الحرب منذرةً بالويل والثبور، أساطيل العالم أجمع وطائراته تحالفت؛ وكالغيلان غطت الخلجان والبحور، وسدّت أبواب السماء، تُركت المنازل بما فيها، وفرّ أهلوها بجلودهم، حاملين ما يملكون من قليل إلى الضياع، وكنا من الهاربين، في دار خربة لم يكتمل بناؤها، شمال العاصمة، وضعنا الرحال، غرفه لا تزال دون سقوف، إلاّ واحدة اتخذناها ملجأً يأوينا من دوي الطائرات المخيف، وقنديلا نفطيّا صغيرا يحمله معه من يريد الذهاب إلى دورة المياه عند الباب الخارجية، ماراً بباحةٍ واسعة، مكشوفة، تنتشرفيها حفر طينيّة تتجمع فيها مياه الأمطار، وما تقذفه عواصف الشتاء الباردة من مخلَّفات الطريق وأكياسٍ بلاستيكية.
ثمانية أشخاص وطفل صغير يتكدسون فوق بعضهم في الغرفة اليتيمة التي تتفرٰد بسقف مثقوب، يسقينا ماء حين يهطل المطر، فنضع تحت الثقب ما توفّر من قدور قديمة، محتفظين بماء السماء المبارك، نسدّ به حاجتنا عند انقطاع المياه في الحنفيات. بين حين وآخر تطلّ علينا صاحبة الدار، لتطمئن على الحجارة وأكوام التراب المتناثرة في كل مكان! شابّة كانت في جسد امرأةٍ عجوز، بطنها تسابقها، تمضغ علكتها، فاغرةً فمها، فيضحك ابنيَ الصغير ويخبيء رأسه خلف ظهري. 
في كل مرةٍ تزورنا، تطوف في أرجاء البيت تتفقده، وكأنها تبحث عن شيء مفقود، ثم تجلس صامتةً، متلفعةً بعباءتها التي لم تعد تسع بطنها الكبير.. في نهاية الشهر التاسع، أجابتني حين سألتها عن حملها، تلوذ بالصمت من جديد، وتترك عينيها ( راداراً )يطوف فوق وجوهنا، يستفز الصغار، فيهربون إلى الباحة المكشوفة، رغم البرد. أثار انتباهي حين ينطلق صوتها نادراً، فأشعر بضيقٍ في تنفسي، كصرير دلوٍ عتيق قادم من أعماق بئر مهجور، ويدور في رأسي سؤال، كيف يصل هذا الصوت إلى مسامع تلاميذ صغار، وكيف يشدهم إلى الدرس هذا الصوت الصديء. في أتعس يومٍ من أيام الحرب وأكثرها بشاعةً، جاءتنا تتدحرج، ملتفِّين جميعنا حول جهاز راديو ( ترانزستور )صغير، نسمع تفاصيل الخبر الذي أفجعنا.. قصف ملجأ العامرية، وصف ما حدث من إذاعةٍ إلى أخرى، أدمى قلوبنا، وبحرقة الضياع، ألم الخذلان، وخيبة طفولةٍ محترقة، بكينا جميعاً وسط ذهول ابنيَ الصغير، رائحة لحم الضحايا المحترق ملأت الأرض والسماء، رغم بعد المسافة، واخترقت أنوفنا باكيةً، لاعنة.
افترشت عباءتها، وجلست متكورةً على الأرض وقد تهدّلت بطنها وذبلت نظراتها.. وفي وجوهنا حملقت متسائلة بصوتٍ خارجٍ من أعماق بئر.. ” شكو.. شصار؟”
وبكلّ ما أدمى قلبي من ألمٍ ولوعة، تسابقت كلماتي تقطر دماً، أصف قصف ملجأ العامرية، بذهول نظرت نحوي، لم تفهم ما أقول، وبكلِّ انفعالاتي وفوران مشاعري، أخذت أستعمل يديّ وتعابير وجهي، ونبرات صوتي، أصف لها كيف قصف الملجأ، ومئات الضحايا، نساء وأطفال وشيوخ، تفحّمت أجسادهم وأصبحت هشيماً. ويبدو أن انفعالي وصل ذروته وأنا أصف رائحة الأجساد المحترقة، ولكي أعطي الصورة بعداً جديداً من الألم والرعب، قلت..” حتى رئيس وزراء بريطانيا ترك فطوره متأثراً بما حدث..”؛ وضحك في صدري صوت ساخر!
يبدو أن انفعالي، وفِي خضمّ الوصف، أحالني إلى ممثل كوميدي ينتظر تصفيق المشاهدين، وكل ما يصلني منها..”ها..”، أنفعل أكثر، وأصف الكارثة بكل ما في قاموس اللغة من مفرداتٍ تثير الحزن والشجن، فتلطمني على فمي..” ها..”، دون أيّ تعبير على وجهها، أحسست أن صوتها قادم من أعماق ثلوج القطب الشمالي، ثم بدأ يأخذ نغمةً أخرى، نظرت حولي لأستطلع إن كان معنا في الغرفة خروف يمعمع، حين تحولت ال ( ها..ها )، إلى ( ميع.. ميع )، قفزتُ إلى الغرفة الثانية وانفجرتُ بضحكةٍ باكية مزّقت صدري..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى