دراسات و مقالات

نمضي و لا نمضي ٠٠!جوزيف إيليا سوريا – ١٩٦٤ م

السعيد عبد العاطي مبارك الفايد

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

” على دفتري ينحني قلمي
ويكتبُ شِعريْ بحرفِ دمي
تتوهُ بعيدًا مراكبُهُ
على بحرِ صرختِهِ المُبهَمِ
فلا الدّربُ تبدو معالمُهُ
ولا مَنْ مشى فيهِ في مَغْنمِ
خطاهُ عليهِ مبعثَرَةٌ
تطاردُها لطمةُ العدَمِ
ولا الغدُ في وجهِهِ مُشرِقٌ
فيا لغدٍ غيرِ مُبتَسِمِ
فأينَ ستقرأُ مزمورَكَ
الجديدَ وكيفَ بلا نغَمِ
ومَنْ يسمعُ الآنَ والكلُّ في
شرودٍ وغمٍّ وفي صمَمِ
ومَنْ سيرى ما سترسُمُهُ
وعينُ الكثيرينَ في ظُلَمِ ؟
أيا قلمي لا تُبالِ بما
أقولُ وكنْ شامخًا ودُمِ
على دفتري قُمْ ولا تصغِ ليْ
فبيْ وجعٌ صاغَ نُطْقَ فمي
وقُلْ : أنا بيْ الدّهرُ مُرتسِمٌ
فلا عاشَ دهرٌ بلا قلمِ
( قصيدة : قلمي )
—————–
يظل حديثنا موصولا مع الشعر و الشعراء من خلال تغريدة الشعر العربي الذي ننتقل بين ظلال عبر الآفاق الواسعة داخل الوطن العربي و العالم الكبير في المنافي حيث العرب المهاجرين و شعر المهاجر الذي يصور في الغربة و تتجلى فيه الوطنية و الفخر و الاعتزاز والذكريات ٠٠
و ها نحن نقدم بعض الشخصيات غير العربية من الأعاجم لننقل تجاربهم الذاتية في إطار تقارب الرؤى و تناول موضوعات الحياة المتنوعة و المنفتحة على الآخر مع الحياة و الطبيعة الجميلة هكذا ٠٠
و هذا هو الشاعر السوري المهاجر القس جوزيف إيليا يمثل هذا النموذج و قصائده تنم عن شاعريته الأصيلة و اعتزازه بالعروبة و موضوعات و أغراض شعره تنطق بصدق عبقريته هكذا ٠٠
و عن العلاقة بين الدين والأدب والشعر، اعتبر الشاعر القس جوزيف أيليا أنه لا يرى أي تناقض بين الشعر كفحوى فكري وبين الدين، مضيفاً أن أول شاعر في تاريخ الإنسانية هو أبونا آدم الذي قال عبارة فيها الكثير من الشاعرية لأمّنا حوّاء: “هذه عظم من عظامي ولحم من لحمي”.
كما يرى الشاعر أيليا المقيم في ألمانيا منذ بضع سنوات، أن الغربة شعور لا يغادر المهاجر بسهولة قائلاً:
” لا أزال أعيش في سوريا بكل أحاسيسي وأحلامي. حملت من سوريا تاريخاً ليس من السهل تجاوزه، وحملت أيضا جغرافية وثقافة. حملتها جميعها في حقيبة نفسي وغادرت بلدي مكرهاً لأقيم في المهجر”٠

* نشأته :
======
ولد الشاعر جوزيف ايليا عام ١٩٦٤م بقرية يدريك بمنطقة المالكية التابعة لمحافظة الحسكة السورية ٠
و مكث لمتابعة تعليمه في مدارسها.
وبعد نيله الشّهادة الثانويّة تمّ إيفاده من قبل ” السّينودس الإنجيليّ في سوريّة ولبنان ” إلى القاهرة بمصر للتخصّص في العلوم الدّينيّة في إحدى كلّياتها الّلاهوتيّة وبعد نيله للشّهادة المطلوبة عاد إلى مدينته لتعينه رئيسًا للطّائفة الإنجيليّة فيها بعد سيامتي قسّيسًّا فرعاها لما يقرب من ربع قرنٍ إلى أن دفعته الظروف القاسية لتركها نازحًا مع زوجته وأبنائه الثّلاثة إلى ألمانيا ٠
يكتب القصيدة العمودية و شعر التفعيلة و أناشيد الأطفال و هو مقيم في ألمانيا منذ بضع سنوات ٠
فقد نزح مع الصراعات و الحرب ٠
و غنى كثير من شعره مطربين ومطربات الوطن العربي ٠
و أصدر خمس مجموعات شعرية ٠
و يجمع أعماله الشعرية الكاملة في صدور قريب ٠

* مختارات من شعره :
================
هذه بعض قصائد الشاعر جوزيف موسى إيليا السوري المقيم في ألمانيا تحمل عنوان ( حديث مقبرةٍ ) و له مغزى و رمزية متأثرا بفلسفة أبي العلاء المعري في تناول الذات مع شكوى الحياة بين صمت و موت و بعث كل هذا السرد داخل مربع النهاية الحقيقية متخذا من حديث حوار المقبرة تلك الانطلاقة فيقول فيها :
هل أنتَ مثْلي ترتادُ مقبرةً
كلُّ الّذي فيها صمتُ أمواتِ؟
وإنْ لشيءٍ قالت تقولُ : أنا
منزلُكم فادخلوا لحُجْراتي
وحينَ أمضي عنها تخاطبُني :
لا تنسَ يا كارهي حكاياتي
إنّي سأبقى وأنتَ مرتحِلٌ
والدّهرُ لمْ يُبطِلْ سمَّ حيّاتي
مهما تغِبْ هاربًا فأنتَ غدًا
إليَّ مستسلِمَ الخُطى آتِ ٠

***
و ينتقل بنا شاعرنا جوزيف إيليا في قصيدة فلسفية تأملية تحمل دلالات يستدعي فيها أشياء ربما عاشت معه و مضى يعبر و يصور مراحل تتصدر الموقف تحت عنوان ( كي لا أرى ) على نهج إيليا أبي ماضي في قصيدة المساء لست أدري يقول فيها جوزيف :

ما زلتُ أجهلُ
سائلًا نفْسيْ هنا متردِّدا :

– مِنْ أينَ
تأتيني القصيدةُ هكذا
كالموجةِ الحمقاءِ
تُغرِقُ شاطئِيْ بضجيجِها
وسُعالِها
وصراخِها
لتقولَ لي :
– يكفيكَ هذا الصّمتُ
قُمْ
مِنْ نومِكَ المصحوبِ بالخيباتِ والّلعناتِ
خصِّبْ ريشتيْ
وأعِدْ لها تاريخَها ودماءَها
وارسمْ بها حقلَ الوجودِ
مزَهَّرًا متجدِّدا

ولها أنا أصغي
وأصحو
مِنْ رقادٍ شلَّ ليْ جسدًا
فألقى عند رأسي
نجمةً مطعونةً مهزومةً
وفراشةً مسحوقةً مُغْبَرَّةً
وغزالةً عرجاءَ تشكو سجنَها
وأرى هَزارًا نائحًا متكسِّرًا
وضفيرةً مقصوصةً ومَدُوسةً
وأرى الّذي منهُ هربتُ
وقد أتاني مِنْ جديدٍ
صاخبًا
متهيِّجًا
ومهدِّدا

فأقولُ :
– كيفَ سأُنبِتُ الألفاظَ
والطّوفانُ بي متربِّصٌ
وجميعُ ما أنشدْتُهُ يومًا لداليتي
انتهى في جوفِهِ
وتبدّدا؟

فدعي يدِيْ ترتاحُ
مِنْ نقشِ الحروفِ كئيبةً
مصلوبةً
مشلولةً
لا توقظيني
واتركيني
نائمًا
مستسلِمًا
متلذِّذًا
في عالَمٍ أثوابَ أحلاميْ ارتدى

كي لا أرى هذا الفضاءَ
وقد هويتُ نقاءَ مِعطفِهِ
وبُسْتُ خدودَهُ
بدخانِ هاويةِ الجنونِ مُلبَّدا ٠

و هذه قصيدة أخرى بعنوان ( أخطار غرقى البحر )بمثابة صيحة تصور حالة تؤرق الروح بل كارثة بحثا عن لقمة العيش و الحرية و الحلم الجميل في أرض المنافي من خلال الهجرة غير الشرعية في قوارب الموت و المصير المأساوي و يبقى الوطن بين الضلوع مسافرا ٠٠
و لَمَ لا فما زالت البحار تبتلع كثيرًا من المهاجرين الهاربين من بلادهم في محاولةٍ منهم للوصول إلى بلاد الغرب لعلّهم يجدون فيها ما يطمحون إليه من رغد العيش وسلامته وكرامته
ولو قيّض لغريقٍ من هؤلاء أن يقول لقال :
البحرُ هذا خضتُهُ كلّي أملْ
في بقعةٍ فيها جِرارٌ مِنْ عسلْ

لكنّهُ قد جرَّني لمهالكٍ
فصرختُ صرخةَ مَنْ إلى نارٍ دخلْ

وتناسلتْ بي خيبتي ويديْ التوتْ
وبطينِ ما أبغضتُهُ جسدي اغتسَلْ

والموجُ تنهشُ مركبيْ أنيابُهُ
فغدا صريعًا نحو شطٍّ ما وصلْ

ربّاهُ إنّي غارقٌ في جوفِهِ
وسلامُ نفْسي غابَ عنّي وارتحلْ

أدعو أنادي صارخًا وفمي ذوى
لا مَنْ يجيبُ كأنّني أدعو جبلْ

كيف الخلاصُ وكلُّ مَنْ حولي هنا
غرقى ولا أحدٌ أعانَ ولا سألْ؟

وطني هجرتُ جحيمَهُ متوجِّعًا
وهو الجريحُ بهمِّ طعنتِهِ انشغَلْ

يا أيّها الوطنُ الشّقيُّ لكَم أنا
متألِّمٌ والجرحُ باقٍ ما اندملْ

أهنا أخوضُ معاركي في البحرِ في
لُجَجٍ تبعثرُني

فيأتيني الأجلْ؟

وطني وسهمُكَ في فؤادي شلَّني
فسقطتُ مقتولًا وفي وجهي خجلْ

أأموتُ تنهشُني وحوشُ البحرِ؟ يا
وطني أموتُ ومنكَ ما ذقتُ القُبَلْ

سحقًا لأرضٍ هجّرتْ أبناءَها
وبها علا رِعديدُها وهوى البطلْ ٠
——–

و جميل أن يترك لنا الشاعر وصيته التي تمثل رؤيته من خلال تجربته مع الحياة في صدق تحت عنوان ( وصيّةُ شاعرٍ ) ينشد فيها الخير و الصفاء و النقاء و الأمل و الخلود حيث يقول فيها :
حينما أمضي وحيدًا نحو قبري
شيّعوني بالزّغاريدِ
وقولوا :
كان يهوى صوتَهُ
منطلِقًا نحوَ السّماءْ

واكتبوا شِعريْ
على لحمي بحِبْرِ الموجِ
كي يبقى معي
منتظِرًا
في هذه الصّحراءِ إيقاعاتِ ماءْ

حينما أمضي وحيدًا
لا تقولوا :
غابَ مَنْ كان هنا
يبني طواحينَ الهواءْ

وينادي نجمةً تائهةً
حبلى بضوءِ الأنبياءْ

لا تقولوا :
كان نايًا خشِنًا
في فمِ راعٍ هدَّهُ برْدُ الشّتاءْ

حينما أمضي وحيدًا
أَسمِعوني :
” هلّلويا ”
مِنْ فمِ الأعوادِ
تأتي حلوةً تكسِرُ صمتي
فأنا ما زلتُ
أهوى نغمةً تسبحُ في نهرِ نقاءْ

وكَمَاني
لستُ أهواهُ عقيمًا
فليقلْ شيئًا
لأنسى وحشتي
في حفرةٍ تخنُقُ في صوتيْ الغِناءْ

حينما أمضي وحيدًا
كفّنوني بالحكايا
وانفُخوا بالبُوقِ لحني
واهتِفوا :
مجدًا لروحِ الشُّعراءْ
——-
و في خاتمة المطاف و الإبحار مع عالم الإنسان و الشاعر السوري القس جوزيف إيليا الذي فتح لنا قصائده بمثابة نافذة على العالم بعد أن تناول موضوعات مهمة في الأدب والدينى و الاجتماع و الوطنية و الفخر بتراثه العربي في سماحة و قبول الآخر داخل الوطن الذي يحمله معه في غربته و إقامته دائما 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى