قصة

غربة .. ووجعٌ عراقيّ

ليلى عبدالواحد المرّاني

حاول جمع شتاته ليلتقط الصوت البعيد الذي اقتلعه من فراشه في ساعةٍ مبكّرة، لا زالت خيوط الظلام تبتلعها. غاصت شجاعته حدَّ القدم و.. ” أخوك سعيد قُتِل …”صوتٌ متهدّجٌ اخترق حواجز سمعه، وآخر ما سمعه.. ” تفجير، سيارة مفخّخة..” جاءه الصوت ملفّعاً بالحزنِ، باكياً. دويّ سقوطه أيقظ زوجته النائمة، مسرعةً، مذهولةً حاولت رفعه بجهد، منهاراً ارتمى على أقرب كرسيّ،
– سعيد قُتِل في تفجير…
تناهى صوته ضعيفاً، باكياً الى مسمعها، لطمت خدّيها المكتنزين، مغالبةً صرخةً كادت تنطلق من فمها. نظرت حولها بفزع، هل سمع الجيران النائمون بهناء بعد سهرة نهاية اسبوعٍ صاخبة، عويلهم؟
سعيد، بقامته الفارعة، وعينيه الماكرتين، تلمعان خلف نظّارته الطبيّة، وابتسامةٌ مرحة لا تفارق شفتيه، مقالبه التي لا تنتهي، تعقبها ضحكةٌ مجلجلة، لماذا يموت، وكيف يقف جريان دمه الهادر، وهو الذي يسخر من الموت، ومن الذين يرتعبون منه؟ احتضنت زوجها بقوّة، وضعت رأسه على صدرها، واستكان كطفلٍ رضيع. بكيا معاً بحرقة، ليس ما يقال سوى دموعٍ صامتة، متسارعة تتساقط في محاولةٍ يائسة لخنق عبراتٍ، هي أصلاً مكتومةً، لا تجد لها طريقاً، اختلطت مع نشيجٍ متقطّعٍ، بذلا جهداً كي لا يصل مسامع ولديهما النائمين. أطلّ الولد الصغير برأسه، متثائباً، يفرك عينيه المغمضتين بانزعاج، حين علا النشيج ووصل مسامعه..
– عمّك سعيد، مات…
هازّاً رأسه باستنكار، سحب جسمه الصغير إلى غرفته، وصفعةُ بابٍ عنيفة هوت على رأسيهما لعنةً. يطلّ ابنه الكبير، ينظر باستغراب، متسائلاً، ثم إلى وجه أمّه، ثمّ إلى باب الشقّةِ، متوجّساً أن يكون بها ثقبٌ يتسرّب منه نشيجهما، ويقلق راحة النائمين!
ربت على كتف والده، قبّله فوق جبينه وجلس صامتاً يحدّق في وجهيهما، ثمّ يطرق بنظره الى الأرض، فاركاً يديه بتشنّج في محاولةٍ يائسة أن يقول شيئاً، همهمات مبهمة أطلقها، اصطدمت بنظرات أمّه الحزينة. نهض متثاقلاً، قبّل رأس والده، وإلى غرفته عاد حزيناً. لفّهما صمتٌ ثقيل، نقله عبر المسافات الطويلة إلى هناك، إلى مدينتها الجنوبيّة، تنام وتغفو على ضفاف دجلة، مترعةً خيراً ومحبّة. المدينة التي احتضنتهما صغيرين، أزقّتها الضيّقة، شهدتهما يتقافزان كأرنبين، يطاردان العصافير، مذعورةً تهرب من أعشاشها، يتحدّيان أمواج دجلة هادرةً، ويضحكان. أحاديث الجنّ والعفاريت ترويها لهما جدّتهما، محدودبة الظهر، كي يناما. عصاها الغليظة تضرب بها عثق النخلة الصغيرة، فتسقط حبّات تمرِ شهيّة، يتسابقان في التقاطها. تذكّر كيف كانا يرتجفان رعباً تحت الغطاء، وهما يتابعان عيوناً حمراء تقدح شرراً، كما كانت الجدّة تصف السعلوّة أو الطنطل، يلتصقان ببعضهما تحت اللحاف المشترك، ثمّ ينامان.
آلاف الأميال تفصلهما الآن، بل موتٌ قاسٍ، لئيم، وغربةٌ أقسى وأكثر لؤماً.
علا نحيبه، مخترقاً كلّ الحواجز والممنوعات، ضغط بيديه على رقبته ليكتم صرخةً معذّبة، تخترق أنسجة مخّه، هابطةً إلى أعماق جوفه، ساحبةً معها كلّ أحشائه ودمه. أحسّ ثعابيناً تنهال عليه من سقف الشقّة الذي أخذ يضيق ويطبق عليه، جدرانها أذرع أخطبوطٍ مخيف امتدّت إليه، تخنقه. يريد أن يصرخ، أن يستغيث، أن يطلقٓ صوته المكتوم شلّالات جحيم، تخترق الأبواب الموصدة، تغرق العمارة النائمة باسترخاء، فيصطدم الصوت منكسراً، بجدران شقّته اللعينة.
قفز فجأةً من كرسيّه، تناول معطفه على عجل، ودسّ قدميه في الحذاء ومسرعاً خرج، سادّاً أذنيه عن ولولة زوجته ..
– إلى أين؟
شحوب وجهه، وعيناه المحمرّتان، أكسبته غموضاً مقلقاً.
في أعماق غابةٍ كثيفة تغلغل، حاملاً أحزانه ووجعه، على جذع شجرةٍ مقطوع ارتمى، مدّ بصره بعيداً، حيث الضباب تتسربل به أغصانٌ تتشابك بكثافة، وشعاعٌ ضعيف، متسلّلاً يخترق الصمت الأزلي. فجأةً، يرى أخاه سعيد، مبتسماً، مادّاً يده إليه، يتحرّك نحوه، فيبتلعه الضباب، يسمع نغماً حزيناً تردّده أوراقٌ متساقطةٌ، صفراء، وجه سعيد يتراءى له بينها، إحدى عينيه تبتسم بحنان، والأخرى تنزف دماً، ولسانه ممتدّاً، طويلاً، داكناً يلعق دماءً تغطّي وجهه وشعره. يطلق صوتاً هادراً، محاولاً أن يمسك بأخيه، ويتهالك ثانيةً على الجذع الصامت بيأس. يجد جدّته قد سبقته، وعصاها الغليظة تطرق بها أرض الغابة، طرقات حزينة، متتابعة، تزيد الوحشة رعباً، ويزداد الضباب كثافةً، والنغم الحزين يطفح حزناً. باكيةً، تحتضنه أمّه، فيعيد الصدى نحيبها.. سعيد .. سعيد..
أبوه، خالاته، وطيفٌ قادم يخترق الضباب، حاملاً فسيلةً صغيرة بإحدى يديه، وبالأخرى طبق تمرٍ ذهبيّ .
– هذا جدّك الذي مات قبل أن يراك، وسعيد..
نزف صوت جدّته،
– وهذه نخلة سعيد، أصرّ جدّك أن يحملها إليه، سنزرعها في بيته الجديد، وسيأكل منها أولاده، وأولاد جيرانهم .
دفءٌ لذيذ أخذ يسري في دمه وأوصاله، كما لو كان طفلاً صغيراً يدسّ رأسه في أحضان أمّه. يشعر بالإرتياح، وأطنان حزنٍ ثقيل، أزيحت عن صدره. يجفّف دموعاً تساقطت مطراً من عينيه، تحمل ساقاه المتعبتان جسمه الذي هزُل، ينظر إليهم بامتنانٍ وحبّ، مودّعاً قبل أن يبتلعهم الضباب واللحن الحزين، وطبق التمر الذهبيّ يبقى صامتاً فوق جذع الشجرة. تتلقّفه زوجته منتحبةً..
– أين كنت، قلقنا عليك …
صامتاً، مبتسماً بأسىً، يدخل غرفته، يرتمي على الفراش بحذائه ومعطفه، وعيناه شاخصتان إلى السق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى