دراسات و مقالات

دراسة في نص الشاعر “جاسم آل حمد الجياشي” (أوهام موصدة /ــ ومفاتح الضوء.

حسين عجيل الساعدي

التاريخ الانساني مليئ بالنظم والعقائد الدينية (السماوية والوضعية) والمذاهب الفلسفية والايديولوجية التي ارادت وتريد ان تحكم سيطرتها على المنظومة الفكرية للعقل الانساني، وقد أخذت هذه النظم والعقائد صيغ وطرق شتى في سبيل الاستحواذ على مداخل ومخارج العقل الانساني .
وتعد الفرضية الحتمية، أحدى الفرضيات الفلسفية، التي تؤكد على أن كل حوادث الكون تخضع لمسببات، قد تكون طبيعية، أو خاضعة الى قوى غيبية أو الى المشيئة الالهية، فهي إغراء فكري للكثير من الذين يؤمنون بها، سواء كان منهم الملحد أو المؤمن .
والحتمية في اللغة (مصدرٌ صناعيٌّ من ‘الْحَتْمِ’، وتعني: وجوب ما لا مفرّ منه. ونقول : حتميّة الشّيء؛ أيْ كونه واجبًا لا مفرّ من وقوعه). وعلى ضوء هذه الحتمية تم مصادرة (إرادة الإنسان الحرة)، التي عدتها (وهمٌ إنساني) . وان السلوك الانساني لم يعد مرهوناً بارادة الانسان وتصرفاته ، بقدر ما هو خاضع لأرادة حتمية جبرية و(تسلسل منطقي سببي محدد سلفا ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث التي يؤدي بعضها إلى بعض وفق قوانين محددة) . ويمكن تحديد موقفين لهذه الحتمية هما: إرادة تخضع الى قوى ميتافيزيقية تحدد حتمية وقوع الحدث مستقبلاً ، وهذه جبرية وفق المنظور الميتافيزيقي، أما الاخرى فتخضع لقانون السببية، تحدث وفق قوانين طبيعية، تستند الى البرهان الفيزيائي، أو البايولوجي أو الفسيولوجي، او السوسيولوجي، والى أراء أُستمدت من النظريات السيكولوجية، المستندة الى عملية التحليل النفسي التي صاغها عالم النفس “سيجموند فرويد”، وغير ذلك من العلوم .
ووفق هذا المنظور اصبحت إرادة الحتمية هي الحاكمة للاحداث والوقائع والافعال، وواقع حال لا يقاربها الشك لا من بعيد ولا من قريب، بنظر مؤيديها، وخطوط حمر، لايمكن تجاوزها، متغلغلة في الاديان السماوية والوضعية، والكثير من الفلسفات المادية والمثالية، فما حال الذي يقف امامها؟، وبماذا يوصف؟!!.
مع بدايات القرن العشرين، تسرب الشك الى فرضية الحتمية، وأن (واقعنا الآن وعصرنا الّذي نعيش فيه، يقودنا تدريجيًّا نحو انسلاخٍ عنيفٍ من دائرة اليقين الحتميّ، إلى دائرة اليقين الاحتمالي) ّ. وهناك مَنْ خالف الحتمية، مثل فيلسوف إرادة الحياة “آرثر شوبنهاور”، بزعمه (أنّ أفعال الإنسان كما تخضع للضّرورات الدّاخليّة، فإنّها تخضع أيضًا للمُؤثّرات الخارجيّة). لان فكرة الحتمية قيدت حياة الإنسان، وعليه ظهرت فكرة (اللاحتميّة)، وهي نقيضاً للحتمية، لتحرر الانسان من فرضية الحتمية والجبرية. فاللاحتميّة ترفض (المنهج الإستقرائي القائل، أنّ مجرّد العثور على عدد كافٍ من المعطيات والأجزاء كافٍ لإقامة القوانين العلمية العامة التي تسمح برسم صورة المستقبل والتنبؤ باتجاهاته) .
كلامنا هذا نسوقه ليس مقدمة لمبحث (ديني عقائدي) يُراد الخوض في غماره، بل هو مدخل فكري فلسفي للولوج الى نص الشاعر المفكر جاسم آل حمد الجياشي الموسوم ( أوهام موصدة /ــ ومفاتح الضوء..!! ). النص الذي يكشف الرؤى الفكرية والفلسفية للشاعر التي تنسجم مع ذاته . يحاول الشاعر أن يخلق نص يقارب به الذات من الداخل، يؤدي الى فهم فلسفي متراكم برؤية جديد، يترجم به كينونة الإنسان، هادماً قداسة وقواعد (الحتمية) المصادرة لارادة الانسان، لان عظمة الانسان على حد تعبير فولتير : (تكمن في ممارسته لما هو مقتنع به) . فهو يبحث عن (مفاتح ضوءً) في نهاية نفق مظلم، يحرره من عبودية جبرية مفتعلة جاثمة على إرادة الانسان لقرون طويلة . الاشارة الاولية في النص هي دالة (العنوان) كمدخل الى فهم النص بما يتضمنه من اشارات مجملة لرؤية النص بدءً بـ(الأوهام) في اشارة الى اوهام (الحتمية) التي احاطت العقل الانساني لقرون مضت، وصولاً الى (المفاتح) التي أضيفت الى (الضوء) وهذه لفظة لا تشير الى آلة فتح المغلق من الاشياء، وانما تأخذ معنى (خزائن) العقل في اشارة ضمنية، للشاعر “جاسم آل حمد الجياشي” في نصه الذي يطرح رؤية فكرية فلسفية غايةً في التعقيد، ألاّ وهي الحتمية أو الجبرية الذي يصفها بـ(اول وهم) يقود الانسان الى مصيره المحتوم، كما يُريد مَن أُسس لها .

النـــص/

ما لهذا الجيب
يفزعني /ــ؟!
كلما حاولت دس يدي
بحثاً عن رصيف فرحٍ صغيرٍ
كنت قد خبأته فيهِ
وأوردتي /ــ مرتبكاً
حين مر بقربي
طيف /ــ قاطف الأفكار
المريعة من منابتها!
أجدهُ /ــ يضع في يدي خلسة
قصاصة شاحبة،، تحمل قصة أولَ وهمٍ نما على جثمان الفراغ..!! ، وسخرية مريرة! ، بأشارات غير واضحة عن مسارات تشابكت، تؤدي لانغلاقات الدروب/ـ؟.. قبل اكتشاف الحقيقة الرخوة تلك! /ــ مع تناثر قداسة اللحظة المزعومة/ــ وانشطاراتها، علمتُ بأن جميع الجداول تمر/ــ بحتمية ما..! ، بكذبة ما..! مِغِزلها واحد /ــ وأعود لدس يدي بأدمانٍ /ــ في ذلك الجيب المقلق !..
يغرز هذا المشاكس
أغنية الوجع الرخيم /ــ يضع
أنغامها بين أصابعي
وأشياء أخرى
لم أكن افقهها تضج كحلم
صغير نما /ــ حتى ضاق
به المهد/ــ بات لايقوى
الاستلقاء /ــ إلا فوق
أديم الحكاية/ــ ؟!
حكاية /ــ الدم المستفيق
مترنحاً بالتواءات الطريق
فترتبك آلة موسيقى
الزمن /ــ المحال
على دمي !!
الذي يفاجئني
دوماً /ــ حين أمرُ
على درب حدائق
– الكذبة الأولى!-
قد /ــ يبدو غجرياً ؟!
أمر/ــ قطاف زهورها
أو بدوي البدايات ؟
لكنَ /ــ دمي المُستثار
لا يستحم /ــ إلا بالضوء
يتيمم بالأمل..
ونهر هذا الجيب
لايجف تدفقه بين اصابعي
يرسمني /ــ يحيلني
كل حين كموجــــــــــةٍ
لاتفقه مسالكها..؟
يضع في كفي قمراً
مندلق الرداء
طواعية /ــ وعقائدَ زيفٍ
أُعدت منذ زمنٍ!
لنجيماتٍ ***
تغازلهُ ريبةً /ــ مقهورة الأختيار
خوفاً /ــ مما بعدُ ؟!
إلا نجمة صماء كأنها
أو هي هكذا /ــ تشكو ظلها الهارب
من مفردات غَزل الغيب
المنظور حاضره
بعيون ماضوية
الأرتداد..!
أدس يدي منحورة الأنين /ــ أسفلَ
أسفلَ /ــ أسفلَ
مرآة /ــ الجيــــــــــــــــــــــــــــــب
المقعرة/ــ أبحث
عن ملامحي /ــ ودروبي
الضائعة في دوامة
الوهن الحتمي!!
الراكض باصرار
نحوَ آخر المثابات الحلقية!!
فتنتاب أصابعي
رعشة حمقاء /ــ ولسعة تخترقها
مصحوبة بصوت يسري
بأوردتي /ــ يأمرني
إسرِعَ وتمترس
خلف الحدود المانعة للتطفل !
على ما أخفيتَ
من ضوء /ــ لا تبح بسركَ
إلا لتلك النجمة الصماءَ /ــ *؟!
مفاتح الضوء..
فهيَ الوحيدة /ــ ستصغي
إليـــــــــــــــــــــــــــــــــكَ…
التحليل/

((ما لهذا الجيب
يفزعني /ــ؟!
كلما حاولت دس يدي
بحثاً عن رصيف فرحٍ صغيرٍ
كنت قد خبأته فيهِ
وأوردتي /ــ مرتبكاًً))

النص يبتدء بأستفهام كبير، يستفز به (العقل) بوصفه (جيب)، يتلمسه (مرتبكا)ً، و(مفاتح الضوء) المخبئة عند حدود حتمية القدر، دسها مَن أورثها له .

((أجدهُ /ــ يضع في يدي خلسة
قصاصة شاحبة،، تحمل قصة أولَ وهمٍ نما على جثمان الفراغ..!! ، وسخرية مريرة! ، بأشارات غير واضحة عن مسارات تشابكت، تؤدي لانغلاقات الدروب/ـ؟.. قبل اكتشاف الحقيقة الرخوة تلك! /ــ مع تناثر قداسة اللحظة المزعومة/ــ وانشطاراتها، علمتُ بأن جميع الجداول تمر/ــ بحتمية ما..! ، بكذبة ما..! مِغِزلها واحد /ــ وأعود لدس يدي بأدمانٍ /ــ في ذلك الجيب المقلق !..))

(الحتمية) عند الشاعر “الجياشي” (وهم)،ٌ (قصاصة شاحبة)، دست في اول بواكير العقل الانساني، وتُرك أمام متاهات الفكر المتشابكة وهواجسه المنغلقة على ذاته، حتى لا تكشف حقيقته الوجودية، (تناثر قداسة اللحظة “الحتمية” المزعومة)، التي أنشطرت وتفرعت الى دروب ومسالك اجتاحت الفكر الانساني بفعل ميتافيزيقي غيبي تارةً او قوانين وضعية (علمية) تارةً اخرى، يصفها الشاعر (بكذبة ما) (مِغِزلها واحد)، أي مصدرها، صاغها من أوجدها ليعصب بها العقل الانساني ويطفئ نوره، كي لا يتلمس دربه .

((وأعود لدس يدي بأدمانٍ /ــ في ذلك الجيب المقلق !..))

“الجياشي” يدس يده مرة أخرى في ذلك (الجيب)، لينتزع (القصاصة الشاحبة)، المخبئة في دهاليز العقل، ليزيح قلقه الوجودي، الذي فرضته عليه حتميات ذات وجوه متعددة، استندت اليها الأنظمة الشمولية المدمرة للانسان .

((وأشياء أخرى
لم أكن افقهها تضج كحلم
صغير نما /ــ حتى ضاق
به المهد/ــ بات لايقوى
الاستلقاء /ــ إلا فوق
أديم الحكاية/ــ ؟!
حكاية /ــ الدم المستفيق
مترنحاً بالتواءات الطريق ))

هذه الاشياء الاخرى شكلت حالة تراكمية ضاق بها التاريخ الذي هو عبارة عن (الحكاية) حسب ما يشير اليه “الجياشي”، أما الذين روجوا (للحكاية) ان تكون هي السائدة، لم يكن الشاعر “الجياشي” السباق في كشف عيوب الحكاية (التاريخانية)، بل سبقوه الكثير ممن ارادوا ان يرتقوا بالعقل البشري، وتحريره من وهم (الحتمية الدورية للتاريخ)، وقوانينها المفتعلة التي يخضع لها عالم الأشياء . أن أبرز نقد واجهته (التاريخانية) كان من قبل الفيلسوف النمساوي “كارل بوبر” حين وصفها في كتابه (بؤس الايديولوجيا) بـ(الخرافة). الذي أكد على ان (الطرق العلمية والعقلية لايمكن التنبأ بكيفية نمو المعارف العلمية لدى الانسان او التنبؤ بمستقبل سير التاريخ الإنساني . وعليه لا يمكن أن تقوم نظرية علمية في التطور التاريخي تصلح أن تكون أساسا للتنبؤ التاريخي)، لان التاريخانية تعتبر (أنّ التغيير الاجتماعي أو التطوّر التاريخي يخضع لقوانين التعاقب غير المشروطة التي تعطي التاريخ وجهة أو اتجاها)، بودون وبورّيكو، المعجم النقدي لعلم الاجتماع، ترجمة سليم حدّاد، ص131 .

((أدس يدي منحورة الأنين /ــ أسفلَ
أسفلَ /ــ أسفلَ
مرآة /ــ الجيــــــــــــــــــــــــــــــب
المقعرة/ــ أبحث
عن ملامحي /ــ ودروبي
الضائعة في دوامة
الوهن الحتمي!!
الراكض باصرار
نحوَ آخر المثابات الحلقية!!
فتنتاب أصابعي ))

أن العقل البشري هو (مرآة /ــ الجيــــب المقعرة/ــ)، المرآة المقعرة هي مرآة لامة تعمل على تجميع مصادر التاريخ في بؤرة مركزي واحدة، تكبل العقل بقيود (ضائعة في دوامة / الوهن الحتمي!!) الحتمية الدورية للتاريخ هي (المثابات الحلقية) كما يسميها “الجياشي”، هذه الحتمية الدورية التاريخانية، تقوم على دراسة الماضي من اجل فهم الحاضر والمستقبل، لأنه ـ التاريخ ـ يخضع لقوانين كتلك التي تخضع لها الأشياء والطبيعة، معتمدة على فهم الماضي في سياقه التاريخي .
نص الشاعر “جاسم الجياشي” فيه تجاور الشاعرية النثرية والسردية التعبيرية، وهذا التجاور نابع من خصوصية النص، ومقتضياته الفلسفية والشعرية .
فالنص يربط بين كينونة الانسان والشعر، لانهما انعكاس لصورة واحدة، فالشاعر يعيش تجربة وجودية إنسانية، جمع في تجربتة الشعرية بين كينونة الانسان وكينونة الشعر، فهو استجابة الى نداء الانسان في نزوعه نحو اثبات كينونته وقلقه الوجودي جراء ما يحاط به من قيود .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى