خواطر

​المقامة العِماديّة بقلم عماد خالد

 أخبرني عيسى بن هشام عن أبي النّظم العِماديّ، أنه قال: بينما كنتُ ماشياً في السّوق، وقدْ برزتْ من شدة عطشيَ العروق، وكادت تظهر في بطني من شدة جوعي الشقوق، رأيتُ عشّاراً اسمه فاروق، فابتهجَتُ وتهلّلْتُ، وقلتُ: هذا وقتُ المنجلْ، وأقبلتُ نحوه أتعجّلْ، فلما رآني أخذ يسألْ: ممن يا أخا العربْ؟ فقلتُ: ممن أحبوكْ، وبالزيارة طلبوكْ، وبالرفادةِ عرفوكْ .. فتعجّبَ العشّارْ، وطلبَ البيانَ والاختصارْ، فقلتُ: أنا عزيزُ أبيكْ، الذي كان بالحبِّ يجتبيكْ، وبالمودةِ يختصكَ ويحتويكْ، فسالتْ من عينهِ قطرة، وألهمَهُ كلامي الحُزنَ والعِبرة، وهل يبقى من الإنسان، إلا الذكرياتُ والأحزانْ؟ سقى اللهُ أيامَ أبيكْ، كان دوماً يقولْ: نادِني ألبيكْ، فسلمَ عليّ بحرارة، حتّى تحدّرتْ دموعُ الجارةْ، وقبّلني وقبلتُهْ، وسألني عن أخباري وسألتُهْ، وذكرتُ عهد الصّبا ومراتعَهْ، وأيامَ لهونا الجميلِ أنا وأبيه ومرابعهْ، وسألني عن صاحبتي رابعةْ، هل صار بينكما نصيبْ؟ أم تفرّقَ الحبيبُ عن الحبيبْ؟ فانهمرتْ من عينيَ الدموعْ، وصارتْ كأنها اليَنبوعْ، فالدّهرُ فرّق بيننا، والحزنُ قرّب حَيننا، والذّكرُ أغرقني ببحرِ الشّوق، ورأى معاناتي ابن أخي فاروق.

ثم إنه دعانيَ إلى الطعام، فتمنّعتُ واعتذرتْ، فاستحلفني بربّ الأنامْ، فأجبتُ واحتبرتْ، وحين وصلنا إلى البيتْ، وكان في أطراف مدينة الكويتْ، دعا الخادمةْ، وكانت نائمةْ، وسألها أن تجهّز العشاءْ، وتملأ بالعصير الإناءْ، فأكلتُ وشربتُ في هناءْ، وحين حلّ الليلْ، وأطلّ في السّماءِ سُهيلْ، ألفاني قلقاً أحومْ، قال: ما العلوم؟ قلتُ: أليس في بيتك عودْ؟ أو جاريةٌ بالغناءِ تجودْ؟ قال: لا، لكن قم بنا إلى الفندقْ، لعلّ حدسيَ يصدُقْ، فهناكَ مطربةٌ تُرجِعُ بصوتها من الفرح ما نسي، أظن أن اسمها نانسي، قلت: ابنة عجرم؟ قال: هي والله يا مخضرم، وسألته: والتذكره؟ فأنا لا أحملُ في جيبي من المالِ أحقره؟قال: لا تهتم، أذهب الله عن نفسك الهم.

وحين وصلنا السّاحة، رأينا الناس مرتاحة، فقلتُ: يا فاروق، إن قلبي محروق، قال: ولمْ؟ قلتُ: من ذكرى العناء والتّعبْ، ولا يطفئه إلأ عصيرُ الكرزِ والعنبْ، قال: لا عجبْ، عج إلى الإيوانْ، وهناك نشرب ونسمع الألحانْ، فأنشدتُ في سرور، وقلبي من الفرحة يفور:

أيّ حـــــــــــــــــــــــــــــظّ ذاكَ يا فاروقُ
أنّي أراكَ والهوى مســــــــــــــــــروقُ

والجوعُ أضنى مهجتي فقتلتَهُ
وغدتْ رِواءً بالشـــــــــرابِ عروقُ

قد بِتُّ ظمآناً لصـــــــــــــــــوتٍ ناعمٍ
أسرع – فديتُكَ – فالغناءُ يشوقُ 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى