خواطرقصة

ربما

سالم الوكيل

فِي تِلْكَ اللَّيْلَة الَّتِي لَم يَزَلْ مَطَرُهَا هَامِيًا كَعَينٍ دَمُوعٍ وَلَمْ يَزَلْ وَمِيْضُ بَرْقِهَا مُتَلَاحِقًا كَحَبَاتِ لُؤْلُؤٍ مَنْضُودٍ ، لَمْ يُغْمَضْ لَهُ جَفْنٌ ، طَارَ النَّومُ مِنْ عَيْنَيْهِ ، أَخَذَ يَرْتَشِفُ قَهْوَتَهُ رُوَيْدًا رُوَيْدًا .. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى مُتَصَفَحِهِ ؛ فَإِذَا بِرِسَالةٍ ، أَسْرَعَ لِفَتْحِهَا ؛ كَي يَعْرِفَ فَحْوَاهَا ..كَانَتْ لُغَتُهَا رَقِيْقَةً كَالهَوَاءِ العَلِيلِ الَّذِي يُرِيْحُ القَلْبَ المُتْعَبَ مِن مَشَاقِ الحَيَاةِ ، يَفُوْحُ مِنْهَا شَذْوُ العِطْرِ ..
رَدَّ عَلَيهَا التَّحِيَّةَ ، أَخَذَتِ الكَلِمَاتُ تَنْسَابُ مِنْ ثَغْرِهَا اِنْسِيَابَ الأَصَابِعِ عَلَى المِعْزَفِ تُطْرِبُ النَّفْسَ وَتَأْسِرُ القَلْبَ ، سَاءَلَهَا قَائِلًا : مَا السَبَبُ وَرَاءَ لُغَتِكِ الجَذَّابَةِ هَذِهِ؟.. أَجَابَتْهُ : بَأَنَّهَا مُعَلِّمَةٌ تَعْشَقُ العَرَبِيَّةَ عِشْقًا ، تُطْفِئُ ظَمَأَهَا بِرِيِّ بَلَاغَتِهَا ، وَتُذْهِبُ وَحْشَتَهَا بَأَنِيْسِ فَصَاحَتِهَا ، نَهَمُهَا فِي القِرَاءَةِ لَا يَتَوَقَّفُ كَالسَّيْلِ العَرِمِ .
عَمَدَتْ أَنْ تَكْشِفَ عَنْ حَذْلَقَتِهَا اللُّغَوِيَّةِ أَمَامَهُ ، أَظْهَرَتْ تَبَخْتُرًا وَتَعَالِيًا فِي مَقْدِرَتِهَا النَّحْوِيََةِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَى عِلْمٍ بِمَنْ يُحَادِثُهَا .
فَتَّشَتْ آنِفًا فِي أَرْوِقَةِ كِتَابَاتِهِ ، فَتَبَيَّنَ لَهَا أُسْلُوبُهُ المَاتِعُ وَلُغَتُهُ الرَصِيْنَةُ الفَصِيْحَةُ وَمِنْ هُنَا بَدَأَ السِّجَالُ ..
كُلَّمَا اِسْتَغْرَقَتْ فِي الحَدِيْثِ مَعَهُ ؛ اِنْتَابَتْهَا نَشْوَةُ الفَرَحِ ، وَرَاقَهَا لَطَافَةُ كَلِمَاتِهِ ، سُرَّتْ بِشَخْصِيَتِهِ ، وَدَّتَ أَنْ تَصْدَحَ بِهَذَا الإِعْجَابِ صَدْحًا غَيْرَ أَنَّهَا خَائِفَةٌ مِنْ شَيءٍ مَا أَوْ أَنَّ كِبْرِيَاءَهَا حَالَ بَيْنَهُمَا ..
مَضَى رَوْقُ اللَّيْلِ وَالحَدِيْثُ مَازَالَ سَمِيْرَ لَيْلَتِهِمَا ، سَحَرَهَا فِطْنَتُهُ وَسُرْعَةُ بَدِيْهِيَّتِهِ فِي الرَّدِ .
غَابَتْ قَلِيلًا ، ثُمَّ عَادَتْ تَقُولُ لَهُ : لَقَد وَجَدْتُ بَعْضِي فِي إِحْدَى قِصَصِكَ … ( ربما ) ، تَعَجَّبَ مِنْ قَوْلِهَا ، كَيْفَ ذَلِكَ ؟!..
إِنَّ كِبْرِيَاءَهَا مَنَعَهَا مِنَ الإِجَابَةِ ، إنَّ وَرَاءَهَا أَمْرًا مَا هَكَذَا قَالَ فِي نَفْسِهِ .
اِنْفَعَلَتْ فِي وَجْهِهِ ، صَارِخَةً : أَنْتَ تَطْرَحُ الكَثِيرَ مِنَ الأَسْئِلَةِ ؟..
أَنَا أَنْفِرُ مِنْ كَثْرَةِ الأَسْئِلَةِ ، بَادَرَهَا بِقَوْلِه : وََأَنَا أَنْفِرُ مِمَنْ يَنْفِرُ مِنْ كَثْرَةِ الأَسْئِلَةِ ..
سَكَتَتْ هُنَيْهَةً ، ثُمَّ قَالَتْ : لَكَ هَذَا .
قَالَ لَهَا : شَخْصِيَتُكِ سُلْطَوِيَّةٌ أَنَانِيَّةٌ نَرْجِسِيَّةٌ ..
كَانَ وَقْعُ هَذَا التَّوصِيفِ عَلَى مَسَامِعِهَا كَصَوتِ الرَّصَاصِ الَّذِي يَصُمُّ الآذَانَ ..
رَدَّتْ عَلَيهِ بِقَولِهَا : ربما ..
رُغْمَ تِلْكَ الكَلِمَاتِ إِلَّا أَنَهَا لا تُرِيدُ أَنْ تَخْسَرَهُ ؛ فَلَقَد رَأَتْ فِيهِ شَبِيهَا لَهَا فِي الثَّقَافِةِ واللُّغَةِ والعِنَادِ ..
أَرَادَتْ أَنْ تُسِرَّ لَهُ بِشَيءٍ مِنْ حَيَاتِهَا ، لَكِنَّهُ قَاطَعَهَا قَائِلًا : كيفَ تُسِرِّينَ لِي بِشَيءٍ وَأَنِتِ تَخَافِينَنِي ؟!..
قَالَتْ لَهُ : طَابَتْ لَيلَتُكَ .
رَدَّ عَلَيهَا : ربما ..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى