قصة

مشهد ختام

طارق الصاوى خلف

فى الليلة الاخيرة لمولد الولى، التف الزوار حول خيمة نصبها غريب أمام المقام، تناولوا من يديه أشهى طبق فول نابت، تدحرج فى سيره كنخلة بين أعواد ذرة، رفعت النسوة رؤوسهن لوجهه فاحم السواد و شعره المجعد، هرول و لدبيب أقدامه وقع الطبل ليتصدر حلقة الذكر، تمايل، تطوح، انتشى الغريب من سطوة وجده، قوس جسده لامس رأسه الأرض، تقلب على يديه فى حركات اكروباتيه، أخلى الدراويش له الساحة، سقته “الشيخة هنا” أكواب قرفه باللبن، وهبته بالطاقة ليتطهر بالذكر من محنة تغشاه، اوقفه أذان الفجر، ناولته الشيخة جرابه، قصدا المسجد.
انغمس الغريب فى حياة أهل القرية، يقضى سحابة نهاره بين البساتين، يعالج بخبراته المدهشة أمراض أشجار الفاكهة، يشترى بأجره زادا يحمله للشيخة هنا، يطعم بعرقه من يلوذ بالمقام، تنامى التقدير للغريب فى أفئدة الناس لمطاردته عابثين اتخذوا الليل ستارا لأغراض رخيصة، انصتوا لصوته الشجى فى السحر وهو يغرد يستحث النيام لأن يستبقوا توزيع الأرزاق بركعتين للصبح.
نفخ الغريب كجمل غاضب فى وجه من ظن بمقدوره اقتياده لسراية مالكها زبون قديم لديه، تطاير الزبد من فمه، عركت يديه صوانى اذنه … انقذته توسلات الشيخة: لا إله إلا الله … العفو – يا سيدى – عند المقدرة.
تلاشى غضبه كسحابة صيف شتتها الريح ، سايره مستندا بذراعه على كتفه، تربع الغريب عند باب السراية، جذبه البيك بعزمه ليدخله، عجز أن يزحزحه عن موقع رست به مقعدته.
قرفص البيك جواره، بثه همه والمرأة تطل عليهما من المشربية كقمر تعصف به زوابع القلق، اقترن نظر الغريب بالارض.
طلع خيط الفجر الأبيض بالبشرى بدد ليل الأرق، نحر البيك خراف العقيقة لولده، نسلطت النار على اللحم حتى انضجته، امتلئت السراية بأفواج الأكلة المهنئين بوريث شكك الأفاكون فى نسبه حتى سكنت عذابات روحه نصيحة الغريب، أتت نتيجة تحليل الحامض النووى دليلا دامغا بأن المولود على فراشه من صلبه.
تزينت دنيا البيك و اخذت زخرفها، و تألقت زوجته بالجمال، تمنى لو يعمر مائة عام لكن المنية اقتنصته مخلفا الرضيع فى ذمة الغريب بينما ثبتت الشيخة خيمتها عند عتبة السراية، منصبة نفسها حارسة للأرملة.
شيد الغريب بيتا من طابقين، افتتح محلا لبيع البذور و المبيدات، أخرس همسات المشككين فى أهليته لرعاية اليتيم بتعليقه شهادة تخرجه من كلية الزراعة ، صار بعد صلاة الجمعة يتربع فى خيمة الشيخة هنا، تضع الأرملة المتوردة خدودها طفلها بين كفيه، يمسح على رأسه، يرقيه، و يمضى دون أن تستأنس بكلمة منه حتى نزعت ثوب الحداد، و تزينت فى عيون خطابها، تجاهلها، ارسلت له تستثيره بخطيب أتاها، استطلع بنظرة وحيدة هلال القبول فى عينيها، أمسكت الكهرباء بجسدها، سألها رأيها، ارتعشت، تحشرج صوتها، هز رأسه الضخم، دارت ابتسامتها بمنديلها المعطر، قبض شعر لحيته، سمى على الطفل، حمله على كتفه، انطلق للمقام، طاف به، رده لأمه، لامست يدها أصابعه، استغفر الله طويلا، توهج وجه المرأة، قرصتها الشيخة هنا، سحبتها لخيمة الأدب … ذهب الغريب لديوان عائلة البيك، حاملا جواب السيدة، صب الوقود فى خزان ثورتهم، وهو يتلو عليهم وصية شقيقهم الموثقة برعايته مصالح أبنه، أكلت نفوخهم الطير من الحيرة فى تفسير مقولته التى رددها عليهم ثلاثا :المرأة لمن تقبله زوجا و الولد سأطعمه من لحمى و ميراثه أمانة فى عنق من يتحملها و نحاسبه ان فرط.
تقاطر المريدون فى موعدهم ، استقبلهم الغريب خادم الولى بأطباق الفول النابت و على كتفه الطفل يردد كلماته القليلة و أمه بمعية الشيخة تفتان الخبز فى المرق بعد العشاء ، أنشد الغريب بصوته الصداح أرجوزة فى مدح “من يخجل البرق من سنا وجهه ” سرت فى الصدور سكينةء، وثب الغريب على صهوة اللحظة المواتية، ترحم على اسرة فقدها لحكمة و حياة باذخة هجرها لقدر، وباب للخير فتحه البيك بوصيته الواجبة له ليكون ابا لابنه من بعده، صمت طويلا، و ضيوف الليلة الكبيرة لمولد الولى يتحرقون لسماع خبر اقترانه بالأرملة .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى