قصة

على مشارف الحلم

بقلم خيرة الساكت

انبثقت روح جديدة في جسد حينا الذي لم يكن يحتوي سوى دكاكين تبيع كل ماهو حشو للبطون و ملء للمعدة و منازل متراصة جنبا إلى جنب تجعل متساكنيها بوجوه بائسة رمادية اللون كالحة تحيل على يأس دب في النفوس..أغاني الفن الشعبي تصدح مسببة تلوثا سمعيا رهيبا و سقوطا أخلاقيا لا مثيل له..
من بين كل ذلك الجو المشحون بالاستهلاك و الرداءة انبعث نور ليضيء كل أرجاء حينا ..
محل ورد و زهور كبير بواجهة بلورية ضمت كل أنواع الزهور في العالم ..انتشرت الروائح العطرة في أرجاء الحي..انبسطت أسارير النساء و الفتيات ..هدأت طبائع الرجال..
صاحب المحل شاب غريب عن المدينة..
يعمل بنشاط.. لا تفارق الابتسامة وجهه.. على درجة كبيرة من الوسامة جعلت نساء الحي تطلق عليه اسم أنطونيو ..

تقول إحداهن سأشتري الورد من عند أنطونيو..
و الأخرى تدعي و قد اصطبغت وجنتاها باللون الأحمر أن أنطونيو قد أهداها وردة عند وقوفها أمام واجهة محله.
كل الفتيات تحلم بالارتباط بأنطونيو الذي صار بطلا و حديث الساعة ..
لم ألق بالا لكل الأحاديث و الأقاويل .
لا أجد جهدا لأسترد أنفاسي ما بين العائلة و الواجبات و العمل يمضي الوقت دون أن أشعر به..
عملي الذي أزاوله يوميا. مضن ، رتيب و ممل.
أغادر البيت بسرعة. أستنفد قواي فأعود منهكة ..
في طريق العودة أمشي فوق الرصيف ببطء
أبتاع ما أحتاجه للمطبخ و أحيانا لا أشتري شيئا ..
في هذه المرة كنت أنوي اشتراء ملابس مستعملة للأطفال ..رفعت رأسي.. وجهت نظري نحو المحلات المقابلة على الرصيف الآخر ..
أبصرت تلك الواجهة البلورية الكبيرة و الفخمة.
قطعت الطريق ..قاومت رغبتي في الدخول إلى المحل و لكن أزهار القرنفل البيضاء المزينة بنقاط زهرية احتلت رؤيتي و قضت على آخر ذرة للمقاومة..القرنفل عشقي الذي لم أتمكن من التخلص منه..

لما لا أشتري بضع الزهور و إذا ما سألني أحدهم عن مصدرها أدعي بأنها هدية من تلاميذي ؟

دخلت المحل على وجل.. داعبت أذني موسيقى خافتة لجاك برال بثت الهدوء في نفسي و أزاحت سحابة التوتر التي ترافقني .

الورود موزعة بعناية فائقة و الأصص غلفت بأوراق الألمنيوم فلم يبدو منها سوى الأزهار الحديثة النمو و بعض من التراب الأسود المسمد ..

اقتربت من الورود أنظر إليها.. أتشمم عطرها..
توقفت أمام القرنفل الأحمر ..
صوت رخيم هادئ يتكلم ورائي :

– إنه جميل و مختلف عن كل أنواع النباتات ..!

استدرت بسرعة لأتواجه مع رجل حنطي البشرة ذو ابتسامة ساحرة و أعين عسلية و نظرات تربك أقوى الكائنات ..
هذا هو أنطونيو إذا ..و أخيرا التقيت به..

قلت محاولة اخفاء اضطرابي :

– أريد باقة ملونة من كل أزهار القرنفل التي لديك..

– طيب و لكني لا أظن أنك بحاجة القرنفل فأنت أجمل من كل الزهور.. !
قال ضاحكا ثم اتجه نحو الورود و بدأ بتكوين الباقة ..
شحنة نشاط و كائن ملائكي جميل ، رقيق رقة الزهور التي يتضوع شذاها في كل مكان..

وضع شريطا حريريا لامعا للورود و ناولني الباقة قائلا :

تفضلي! عودي ثانية لكي أريك كيف تصنعين حديقتك بنفسك..!

اقترب مني. ضغط على ذراعي برفق. غمزني و قال مبتسما :

– أنت رائعة!
تعرقت. ارتبكت و لم أستطع أن أنطق بحرف.
أيقظت لمسته مشاعر مضطربة كانت تركن إلى سبات طويل .
أنت الرائع و القرنفل و كل الورد يا أنطونيو
و لكن لما الآن ؟ تظهر فجأة دون استئذان و تقتحم الصقيع الذي يبسط رداءه على حياتي..
أعرف أنك لن تتجمد و لكني أخشى على جليد روحي من الذوبان .
ماذا سأفعل بكل تلك الأنهار و كيف سأقاوم التيار الجارف ؟

كدت أصطدم بالزجاج عند خروجي من المحل. أحمل الباقة. ألقي عليها نظرة بين الفينة و الأخرى و أقرب شريطها اللامع إلى أنفي لأشتم رائحة عطرة تركتها يدا أنطونيو ..

عادت بي قدمي إلى المنزل. عزفت عن الطعام و أنا التي كنت أتناوله دائما سواء أن جعت أم لا..
لازمت الصمت و الشرود ..لا أرفع بصري إلا لأتأمل زهرات القرنفل في المزهرية ..
بدأت الزهرات بالذبول و معها تذبل روحي الضعيفة و تختنق ..تريد الانعتاق و يأبى العقل ذلك..
لاحظ زوجي تغير حالي. سأل :

– لما لا تأكلين ؟ هل أنت مريضة ؟ وجهك مصفر..

أطلت النظر إليه ..عقد حاجبيه منتظرا اجابتي.

– أريد أن تعلمني كيف أصنع حديقتي الخاصة..!

– أي حديقة ؟

– سطح منزلنا ، سأحوله إلى حديقة جميلة من الورود و الزهور..
اقتربت منه مبتسمة و أمسكت يده :

– هل تساعدني في ذلك ؟

زعق قاذفا لعابه في وجهي :

– و ماذا سنفعل بالورد ؟ هل سنطبخه على العشاء ؟
كل هذا بسبب تلك الروايات التي تقرئينها!
سأحذر أمين المكتبة العمومية من مدك بالكتب..!

أستغفر الله…! قال و قد ضرب كفا بكف ..

– اسمعي! لقد دعوت خالي و زوجته على العشاء . أريد وجبات فاخرة. لديك كل ما تحتاجينه في الثلاجة..

خرج صافقا الباب بقوة وراءة…

من الآن سأهتم بما أحب. لن أكون تلك المرأة المثقلة بالمسؤوليات و الواجبات .
و لن أطبخ . فليطبخ هو إذا أراد .

توجهت نحو المرآة . تأملت نفسي جيدا. أنطونيو محق أنا رائعة. فقط الزواج و الانجاب يجعلان المرأة تفقد نضارتها و لكن من تعشق الورد ستتضوع بعطره..

حضرت نفسي . شعر منسدل ، ثياب شبابية ، ماكياج خفيف و عطر هادئ..
سيدة الورد قادمة ..سأحصل على كل المعلومات دون أن يجتاز أحد أسوار قلعتي ..

غادرت المنزل أدندن بكلمات أغنية ايطالية بالكاد أتذكرها و لكني أحفظ لحنها جيدا .

نزلت إلى الحي أمشي مرفوعة الرأس مستقيمة الظهر ..لا أحمل حقيبة و لا مالا..
فقط قلبا يخفق بين أضلعي خفقانا جديدا أسمع صداه و روحا تطير كفراشة حديثة النشأة مزهوة بألوان جناحيها ..خطواتي خبب جميل الايقاع و كأني نقر أصابع عازف ماهر على البيانو..

مررت أمام المقاهي دون أن أغير سيري إلى الرصيف الآخر.
لم أكترث بنظرات الرجال و لا بالنساء اللاتي يلقين علي التحية ضاحكات..

أمام واجهة المحل فتيات المعهد تمسك كل واحدة منهن وردة في يدها و يتغنجن بدلال .
يتبادلن الحديث مع أنطونيو المرح..

أبطأت سيري حتى غادرن المكان..
ولجت المحل واثقة الخطى ..عين على الورود التي تأسر الألباب و العين الأخرى على أنطونيو الذي ضحكته تطيل العمر ..
ضحكته التي بادرني بها قائلا :
– أهلا بك ! سررت لعودتك !

تراجعت خطوة للوراء حتى أتفادى تلك الأشعة التي ترسلها عيناه و أحتفظ بتوازني أمامه. وجهت بصري نحو الورود و قلت :

– أريد معلومات حول كيفية زراعة الورود و الاعتناء بها …!

– سأعلمك كل شيء و لكن مهما حدثتك لن تستفيدي إلا إذا شاهدت كل المراحل تتم أمامك.. هيا اتبعيني إلى الداخل .!

تبعته أتأمل تفاصيل جسده الشبيهة بممثلي السينما و الرياضيين.. جسد يجذبني كمغناطيس و يجعل خيالي يسرح و يحلق بعيدا يعبر كل المجرات و يلمس الحب في الأكوان الأخرى..

قطع صوته أحلامي الرقيقة لأجد نفسي في غرفة داخلية وسط البذور و الأسمدة و نباتات الزينة.

– هنا يمكنك تعلم ما تريدين.. !
النبتة الكبيرة التي وراءك تساعدك في حماية ورودك من الحشرات الضارة إذا ما اعتنيت بها..أنصحك بزراعتك
انظري!

مد يده وراء ظهري و أمسك بغصن من أغصان النبتة لأجد نفسي محاصرة بينه و بين النبتة..
حاولت الانفلات قليلا لكنه قرب الغصن إلى أنفي قائلا :
– إنها ذات رائحة عطرة !
أبعد الغصن بسرعة. لامست أصابعه خدي .
تأملني مطولا.
تحدث و قد بدأت أنفاسه بالتسارع ” أراك دوما حتى حفظت وجهك عن ظهر قلب.. كيف أمكنك أن تخرجي من الحلم إلى الواقع ؟
كل ليلة يتكرر ذلك الحلم.. أرى أمي في منامي تقدم لي وردة و توصيني بالاعتناء بها.. أنظر إلى الوردة فأرى وجهك مرسوما فوق بتلاتها..
اسمحي لي أن أعتني بك.. !

أثناء كلامه حذف المسافة التي بيننا و أصبح الحصار بين ذراعيه أمرا واقعا. التصق جسده بجسدي و هاجمتني أنفاسه حارة في رقبتي ..
تململت لأنهي ما يحدث. بحثت عن أبواب قلعتي لأوصدها في وجهه فلم أجدها.
أجهز جيش قبلاته على ما تبقى من حطام .
لأستلقي على الركام متماهية .
كان الأمر يشبه رحلة إلى الجنة. كل شيء عطر ..يحتضنني أنطونيو وسط الورود و أوراق النباتات تحف بنا من كل جانب..
نهلت من نعيم الجنة و فككت قيد فراشتي التي حلقت مرفرفة لتنفصل عن هذا العالم المادي المقيت..
و أنا على تلك الحال من السكر و العشق ، شعرت بيدي أنطونيو تحاول تجريدي من ثيابي. انتبهت إلى الوضع الذي لا أحسد عليه. لسعتني برودة البلاط في عظامي و اقشعر جسدي.
دفعته بقوة استجمعتها للنهوض. قلت بأعلى صوتي ” لا لا..! ” لكنه لم يتوقف و لم يدع لي المجال لأقف و أنفض غبار غزوته لقلعتي.

واصل صاما أذنيه عن مقاومتي و رفضي..
صرت أخربش وجهه بيدي .أحدثت ندوبا في كامل جسده . مزق ثيابي لينهشني..
مقص القطف و التزيين ملقى تحت النبتة الكبيرة. جذبته بحركة واحدة .
سددت طعنة لأنطونيو في عنقه. رفع بصره . ظلت عيناه شاخصة في جسدي و الدماء تسيل فوق صدره تعبر الشعيرات كنهر يسير في منحدر..
انكفأ على وجهه و لم يحرك ساكنا. صرخت بأعلى صوتي و انتحبت. غمرت دماؤه الأرضية.
اهتز جسدي المفجوع و غابت كل محتويات الغرفة عن بصري .

فتحت عيني لأجد زوجي يمسك بكتفي و يمسح على شعري محاولا إيقاظي و قد بدا القلق على وجهه :

– إنه كابوس عزيزتي! لا تخافي!
هيا اشربي!
ناولني كوب الماء . شربت غير مصدقة.

تعالت أصوات بالخارج. ضجيج منبهات و صفارة سيارة شرطة . فتح زوجي نافذة غرفتنا المطلة على الشارع.
سأل أحد المتجمعين :

– ماذا يحدث يا أخ ؟

أجابه متأثرا :

– بائع الورد مات! وجدوه مطعونا بمقص في عنقه!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى