قصة

الصعود للأمام

أحمد ثروت

شُبّه لي أن الأجساد حولي تغني بصوت” كارم محمود ” المنغّم : ” أمانة عليك يا ليل طوّل ، و هات العمر مِ الأول . ”
و بينما تتمايل الأشجار و البيوت تبعاً للايقاع المتناغم ، و تتراقص الشوارع و الحواري الضيقة منتشية ، كنت أنا أتجاوز مدخل العمارة ذات الطوابق السبع ؛ أصعد درجات قليلة بعدها مساحة مسطحة ثم درجات قليلة تصلني لباب المصعد العتيق كساقية مهجورة ، أقف متسمراً أمامه للحظات أتذكر نصائح الأصدقاء بالذهاب أولاً للطابق الخامس لأحصل على التأشيرة التي تسبق أي اجراء و تحدد مساري، أخذت أراقب الزر الأحمر المربع و هو يشير بسهم للأعلى ثم دائرة حمراء ثم سهم للأعلى ، و هكذا . بدأ الناس يقفون خلفي و حولي في انتظار هبوط المصعد و فتح الباب المأمول ؛ لكنني اتخذت حذري سريعاً فضيّقت المسافة بيني و بين الباب المغلق و التفتُ بزاوية حادة نحو مقبض الباب في انتظار الوصول . حركتي المحسوبة أربكت الرجل الخمسيني ذو الكرة الضخمة الملتصقة به من الأمام ؛ فقد كان يتجاوز الواقفين واحداً بعد الآخر متجهاً نحوي في ترقب حذر، لكنني كنت مستعداً تماماً لخطوته ؛ فقطعت عليه الطريق ليثبتَ مكانه خلفي مباشرة . مضت الدقائق بطيئة لزجة مشبعة بالتحفز، و الزر الأحمر مطفأ لا يُظهر أي دليل على الحركة .
كان الصف المتعرج قد ضم سبعة أفراد ، لن يسعهم المصعد المسكين مترافقين بالطبع ، لكن السيدة المنقبة السمينة جاءت من بعيد هاتفة بصخب و هي تؤرجح حقيبتها الضخمة ” استنى و النبي يا ابني ، مش قادرة آخد نَفَسي ” ،
ثم عبرتْ السلالم و الردهة الصغيرة في ثانيتين متجاوزة كل المنتظرين ، لتقف ملاصقة تماماً لجانبي الأيمن المائل نحو المقبض ، كان يعبر حولنا العديد من الذين يستخدمون السلالم المتكسرة البارز حديدها و مكوناتها الأصلية؛ حيث يصعدون للطابق الأول أو الثاني أو حتى الثالث ، وبين لحظة و التالية تضع المرأة إبهامها المبطط فوق الزر الأحمر
و كأنها تتعجله أو تُظهر حالتها الطارئة . تلك عشرة كاملة من الدقائق مضت قبل أن يصل الباب المُنتَظَر و ينفتح
نحو أجسادنا للخارج؛ ليخرج من العلبة الحديدية الضخمة بضع رجال مكورون و مُدوَرون يندفعون نحونا هادمين ما
قد حافظتُ عليه بروحي ؛ يخرجون و تدخل السيدة ذات النقاب في نفس وقت خروج ثالثهم دافعة يديها في ظهره ؛
” حرام عليكم ، انتم ايه؟!.. ” ، ثم يتسرب من الصف ورائي رجال كانوا خلفي ، لأجد جسدي دون إرادة فاعلة وسطهم
في المصعد الواسع . كانت حالتي المزاجية رائقة ، رأسي ثقيل و مستكن ، و لن أمنح أحداً فرصة تغيير هذه الحالة أو العبث بها ، فقد بلغتها بعد جهد و معاناة عظيمين استمرّا زمناً . تناسيتُ الصراع و ركّزت ذهني على نجاحي في دخول المصعد فعلياً ؛ فلأهدأ . و لأُنهي حاجتي في سكينة دون توتر أو اضطراب . اندفعت السيدة ذات النقاب الأسود و الثوب المظلم المترهل فجأة تُوقف المصعد في الطابق الثاني ثم تُزيحنا من أمامها و تفتح الباب ثم تصفقه مُخلّفة اندهاشاً
و غيظاً مكتومين ، خرجتُ و رفاقي جميعاً في الطابق الخامس ؛ حيث اتضح أن النصيحة التي وُجهت لي قد وُجهت لهم جميعاً و أطاعوها كما فعلت . بمجرد خطوي في الردهة الطويلة النحيفة فقدتُ إرادتي الحرة على توجيه جسدي مرة أخرى ؛ فقد كان الحشد يتحرك كجسد واحد لستُ سوى خلية بسيطة فيه لا تجروء على الانفراد بقرار . أدخلني الجسد الهائل حجرة كئيبة تسودها رائحة مكتومة كعطب دائم ، قد ارتصت فيها مكاتب خشبية و مقاعد بلاستيكية و حديدية، كلها مشغولة
و مُحمّلة بالأوراق و الملفات ؛ حيث يرقد خلفها ” المدير العام ” بنظارة ذات زجاج متسع يحيط أكثر من نصف وجهه و بنظرات تحتية مُقلقة، و بين أصابعه قلم أزرق لكتابة اسم الموظف المختص و آخر أحمر اللون للتأشير فوق الورقة المعروضة أمامه . كنتُ أراقب حركة يديه و كيف يتبادل القلمان موقعهما في رتابة ثقيلة و أنا أفكر في كوب القهوة السادة الذي ينتظرني مرافقاً قطعة الشيكولاتة الخام التي أهدتها لي صديقتي أمس . أتذوق و أرتشف و أتسلطن . كانت روائح العرق و الملابس المتسخة قد بدأت تنفذ لأنفي مُصرّة على اخراجي من حلمي الصغير ؛ فخرجتُ ؛ و انتبهت لصوته زاعقاً .
– ورقك يا افندي .
بما أن توجيهه لي و لورقتي كان الاتجاه لموظف في الطابق الثاني فلم يكن هناك أي قلق من ناحيتي ؛ سأهبط ثلاثة طوابق في هدوء ، فالهبوط أسهل حتماً من الصعود ، من الممكن أن تهبط تلقائياً ، كل ما عليك هو أن تترك جسدك يتأرجح و يتهاوى في رفق ، تكيّف مع التخبطات و الجروح البسيطة و ستصل للأسفل بسرعة لا تتوقعها ، أما الصعود فصعب مجهد ، ترفع ساقك ثم تحمل جسدك فوق ظهرك و ساقيك ، يااه ، إنها عملية مرهقة جسدياً و ذهنياً . الهبوط صديقي اعتدت عليه و أتقنه، أتجه للموظف المختص ، يُنهي لي ما أريد ، بعد أن أعطيه ما يريد ، هكذا في سلاسة و سُكون نُطبق العُرف السائد دون ضغائن أو معارك استهلاكية بلا جدوى ، كان الحشد الجسد الكبير قد انقسم حشوداً أقل حجماً ؛ فاندمجتُ وسط حشدي و اتجهنا للطابق الأدنى آملين في نهايات سعيدة . كان صوتٌ يرّن و يزّن في أذنيّ طالباً الهدوء و الرحمة ، صوتٌ مألوف لي ؛ سمعته حديثاً و ما زال يطنّ في أذني بضخامته و الهواء المكتوم حوله ؛ كانت ذات النقاب ، إنها المسئولة عن استلام طلبي و إنهاء أوراقي في هدوء لم أعد أنتظره أو أتوقعه ، بدأت صورة كوب القهوة المضاعف تتلاشى من أمام عينيّ ؛ أما المرأة الضخمة فقد نظرت لي نظرة الفاحص الباحث عن خطأ أو زلّة ،
و رغم أن كل ما طلَبَتْه كان مجهزاً معي إلا أنها أصرّت على تغيير تأشيرة ” المدير العام ” و تحويل ورقي لزميلها
“الذي يجلس بلا عمل في الدور السابع” كما قالت و هي ترفع صوتها أكثر .و هكذا اتجهتُ وحدي كحشد خاص صاعداً الطوابق الثلاث في أمل و اضطراب يتناوبان تفكيري .
من الطابق السابع إلى الثالث إلى السادس إلى الرابع إلى الخامس مرة أخرى ؛ حيث لم تعد فكرة استخدام المصعد أو الوقوف أمامه مطروحة إلا كرفاهية لا تناسب الحدث الأليم الذي يحيطني ، حيث اكتملت دائرة تعذيبي ، حيث اتخذتُ لوناً أحمر ساخناً ، حيث انفصلتُ عن جسدي و عمّن حولي و عمّا حولي و أكملت ُ تحركي كمنتَج مبرمج الكترونياً . كنت أتنفس و أمشي و أتلقي التعليمات لأنفذها ،تعلمتُ من أيامي و مشاويري السابقة في المصالح الحكومية ألاّ أفتح نقاشاً أو أنهيه أو أشترك فيه . فقط انظر بحماس مستمر للموظف المهيب و أَنصت معجباً مندهشاً ؛ ثم نفّذ ما يُطلب منك ،
و ما يُطلب منك فقط ، لا تزد حرفاً و لا تُنقص حرفاً ، حينها فقط ، ربما تحصل على ما تريد .
حين عُدتُ للمرأة السمينة صاحبة النقاب كنتُ مستسلماً تماماً و مستعداً حتى النهاية لأية أوامر . و لم يكن مطلبها صعباً أو مستغرباً، فكل ما عليً فعله هو أن أقف أمام باب المصعد . أنتظره حتى يتوقف ثم أُفسح لها مكاناً حتى تستطيع الصعود للمدير العام لتحاول حل مشكلتي كما أوضَحَتْ. لم يكن تأخرها -عن التوجه للمصعد و أنا متشبث ببابه حاجزاً مكانها – خاضعاً لإرادتها بالتأكيد ، فقد كانت قدماها الضئيلتان تحملان ما يفوق المئة كيلو جرام بمراحل ، تحمّلتُ سخرية ذي الجلباب الأصفر الفاقع و نظرات الأربعينية التي تحمل في يديها كوبين من الشاي و تمصمص شفاهها في خفوت لاذع ، حتى أنني تحمّلتُ زغدات شاب أصّر على إغلاقي الباب و إلا أغلقه هو فوق يدي و كسرها و كسر عظامي و كسر ما يشاء ،صمتتُ و تجمدت أفكاري و ردود فعلي ، ثم تقدمت ذات النقاب صارخة في وجوههم بأنها صاعدة للمدير العام ؛ فلم ينبس أحدهم بحرف . لحقتها عن طريق السلالم ككلب مخلص لمالكه ؛ متزلفاً بابتسامة منكسرة ؛ و أنا أنتظرها أمام الغرفة و لا أدخل كما أشارت . و انتظرتُ ؛ و صبرتُ ، و تأملتُ كثيراً . دربتُ نفسي سابقاً على الانتظار
و الصمت ، أتأمل حذائي أو أتعمق بناظريّ في بلاطٍ أرضي أو سقف معلق ، و لم يذهب انتظاري لها بلا جدوى. فقد فكرت عميقاً في صديقتي الجميلة ؛ في وجهها الأصفر الشاحب و بسمتها الملتفة ، في بدء تساؤلها عن الاستقرار
و نهاية الطريق الطويل ببداية جديدة و زواج لا أحتمل التفكير فيه ، في مذاقها الذي تدوم لذته طويلاً؛ و رائحتها التي أدمنتها ،فكرت في كتبي المتكتلة داخل مكتبتين و أسفل سريرين و فراغ غرفة و بهو كبير ، كتبي التي قرأتها و لا أذكر منها عبارة تامة ، روايات لا أذكر أسماء أبطالها أو وقائعها ؛ كتب تاريخ و سياسة لا أعرفها إلا إذا قرأت عناوينها فأخمن ما بها تخيمناً لا تذكراً ، و لا أذكر حدثاً واحداً أو اسماً شهيراً ، فكرت في عملي الممل ، أكتب نفس العبارات كل يوم في دوام لا ينتهي و لا يتبدل ، أخضع لأشخاص أكرههم أو أحتقرهم مبتسماً و مبدياً رغبتي في المزيد ، لماذا أتصرف كبائس خاضع للجميع بلا أدنى اعتراض سوى صوت مرتفع يهدأ في لحظات ، بعد نظرة حالمة حاضنة أو تهديد واضح بجزاء
أو عقاب لن أتحمله؟ أي عفريت دسّ في رأسي سكوناً و تسليماً لكل ما أراه غريباً عني و أراني شاذاً في وجودي معه ؟ لقد أوصلني انتظارها الممتد لإلهام بنظرات و نظريات لوجودي و أسبابه و مهامي الواجبة .كانت منحة انتظاري لها قد طالت ، حتى أنني أدرت ظهري لباب الغرفة و مشيت بخطوات حادة واضحة نازلاً السلالم الرخامية الباهتة درجة درجة ، مشعلاً سيجارتي في تراخ متماسك ؛ نافثاً دخانها أمام عينيّ اللامعتين ، متجهاً بكل جسدي نحو البوابة الرئيسية ؛ثم قذفتُ جسدي في حشدي الجديد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى