قصة

آخر الدنيــــــــــــا

أحمد عثمان

تعِبتْ نساءُحارتنا من كثرة مواساة أمي .. ستةُ أبطُنٍ قبلى؛ ماتواجميعًا صِغارًا ـ كما عرفت لاحقًا ـ ثم كنت أنا عاقبهم .. مَرِضتُ كما مَرِضوا ، لكن الله أراد لي الحياة ..
لذلك كانت أُمِّي تُسَيِّجُني بحرصِها وخوفِها علىَّ من الهواء الطائر ـ كما يقولون ـ .. لاتجعلني أبتعد عن عينيها ..
لسنوات عمري الأولى؛ لم أتجاوز باب الحارة؛ حتى أصبح أقراني من أطفالها هُمْ كل رِفاق لهوي، وعينى على العالم خارجها، ومصدر معلوماتي عن البشر والجغرافيا من حولنا ..
ثم كان ذلك اليوم.. وياله من يوم .. مازال محفورًا بذاكرتي؛ حين عادت بي أمي تجُرُّني من يدي، وبيدها الأخرى عود حطب، وأنا أبكي ألمًا من لمسات ذلك العود على ساقَيَّ ومؤخرتي .. كانت هذه اللمسات عقابًا مؤلمًا منها لم أعتده من قبل .. وبقدر هذا العِقاب أرتفع بكائي ..
كعادتهن اليومية تتحلق النسوة على باب الحارة في جلسة نميمتهن يتجاذبن الحديث في أدق خصوصيات بيوتهن .. هالهن المنظر؛ رُحْنَ يتساءلن مستنكرات:
ــ خيرياأم أحمد .. ماله .. حرام عليكي
لاأنسى امتقاع وجهها، وحالة الهياج العصبي التي كانت عليها، ثم .. ثم دموعها الحارة تنساب سيلاً من عينيها؛ وهي تحتضنني بشدة كأنما تعتذر لي وتعاتبني ـ في آن ـ وترد عليهن:
ــ كان في آخر الدنيا .. عند ” المَسْقَى”
ولمن لايعلم .. ” المسقى” هذا مجرى مائى أقل عرضًا وعُمقًا من “الترعة” .. أغواني أقراني؛ فذهبت إليها معهم نتابع ـ بشغف ـ هؤلاء الأولادالأكبرمنا سِنًّا وهم يصيدون العصافير بالنبلة من الأشجار المنتشرة على ضفتيها ..
ــ ياخبر ..!! شهِقتْ النسوة وهن يضربن صدورهن بأكُفِّهن؛ فقد كان “المسقى” هذا يقع على تخوم الحَىّ ـ بعيدًا ـ يفصل العُمْران عن الحُقول الممتدة خلفه بلا نهاية ..
أيقظني من شُرودي صياح الصِغار وهم يتقافزون .. يكِرُّون ويفِرُّون .. تدور عيناى في المكان بنظرات الأسى .. “مسقى” الذكريات ؛ تم ردمه، واجتثت الأشجار .. صار شارعًا عريضًا، والحقول زُرِعت بيوتًا وعمائرًا وبشرا ..!!
صاح حفيدي وهو يلهو بدراجته بعيدًا:
ــ عُدْ أنت ياجَدي وسألحقك .. سباقنا سيبدأ الآن ..
أستديرـ كآلةٍ ـ قافلاً، تعتريني ابتسامةٌ ممرورةٌ وأنا أحدِّثُه .. لا .. أحدِّثُ نفسي:
ــ لن تضربك أمُك .. ماعاد هناك “مسقى”.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى