قصة

الدلـــوعة

محمد الشطوي

 

سـحر.. امرأة شابة.. تكابد الأسى بعد شهرين من الزواج في بيت ( العيلة).
لم تتنهد تحت سقفه إلا اشتياقا وحرمانا ..تراها قطتها السيامي مكتئبة فتتمسح بها، وتهر، وتظللها ذكريات الجامعة، والمراهقة فترسل عليها الريح كاشفة.. نازفة.
تجلس في غرفتها ضمن البيت الكبير على سريربارد .. تضع يدها على الجدار الفاصل بينها وبين غرفة” سلفتها” .. لاتسمع شيئا.. تلتصق راحتها بالجدارأكثر كأن مغناطيسا بداخله يجذبها إلى ما في الغرفة من حب، وغرام، وهدوء..
الشاشة الصغيرة تواصل بثها فلا يتأخر توم وجيري عن المطاردة والمغامرة..
الألوان متباينة..في شعرها ..في ثوبها ..في الإثمد . في كل مايحيط بها.
تعاود التنهد الأقرب لزفير المحترق قلبه.. تكلم نفسها، وأصابعها المصبوغة أظافرها تجوس في ظهر القطة المستسلمة:
” لا يمكن أن أفشل.. أنا المتعلمة خريجة التربية أمام (عصا النقرزان) صاحبة الدبلوم الفني !!..
يهزها شيء ما من داخلها بعنف. تماما كما هزها يوما أبوها حين أصرت على الطلاق من زوجها الأول، وحرمان ابنها من أبيه..هزها بقوة من كتفيها ناظرا في وجهها المكفهر، وفي عينيها الغارقتين في الدموع: –
انتبهي يا سحر.. الزواج ثقافة. وهوغير مادرست في الجامعة..النجاح فيه مرهون بالوعي والحكمة والتدبر.. لا يغرنك أنك جامعية.. واعلمي أن فوق كل ذي علم عليم”..
نعم ياأبي ها أنا في بيت زوجي الثاني- رجل الأعمال- أواجه التحدي الاجتماعي لا العلمي.. ما أصعب الحياة بلا سند.. بيت العيلة.. فيه نظام مشوب بألوان لا أحبها..ألوان قاتمة، وهم يحسبونها الجمال، والغاية !..
حماى وحماتي لا تفوت عليهما ألاعيب الْكِنَّــاتِ، وكيدهن .. هأنذا أقف على عتبة شبه أخيرة أترقب انفجارا نفسيا يدمر ما تبقى في من روح ..
لم تعلمني أمي أن أكون صاحبة سياسة تقرب البعيد ، وتلين القاسي ، وتكشف المستخبي .. كانت تدللني لأني وحيدتها.. لم تتعبني في شيء..لم تحسب يوما حساب ما أعانيه الآن..دائما أنا رقم اثنين بعد سلفتي..مُعَاتَبَة ، وملومة دائما .. تصفعني حماتي كثيرا بقولها : اتعلمي من سلفتك..لها ابتسامة لا تغيب.. على لسانها كلمة : نعم.. حاضر.. أمرك يابابا ..أمرك ياماما”…
خنقتني الدار على رحابتها، وغيرت في نظري مشاهد الجمال.. الفراشات والعصافير والنسمات.. تصهل بعيدا عني خيول السعادة..
قريبا ..
سأحترف في كل دروب الدجالين والعرافين وقارئات الفنجان من أجل حياكة حلم الاستقرار، والهناءة، واليوم الذي لا يأتي..
زوجى دائما في صف العائلة.. ماذا دهاه فنسي من أنا في قلبه ووجدانه؟ وكيف لي أن أرحل وأهجر ملاذي ، ونور حياتي؟.. رجوتهم أن أضم ابني في حضني كما قطتي.. الكل يؤجل ضمه حتى أنجب لهم أول حفيد..عيال سلفتي يملؤون البيت.. وينعمون بالتدليل والحنان.. الوقت ضاجٌّ بالحيرة، والتمزق..في مقلتي بحور الدمع مالحة، وفي سمعي ألسنة العجائز والمسنين لاتكف عن اللغو والهمز واللمز من داخل كهوف التجاعيد.. كلماتهم أسمعها في حقي حادة منقوعة في سم الغياب,
والافتراء؛ ممايجذبني إلى التطلع في الغيب على رحلة أخرى أعلم أنهاغير واعدة بربيع مزهر..
دق هاتفها المحمول.. كان أبوها.. يخبرها أن ابنها مريض..رمت الهاتف ؛ وارتدت عباءة خروج لا تليق بها، وأسرعت لا تلوي على شيء.. تصطدم بزوجها على باب الغرفة..أزاحته جانبا وهي تصرخ :ابني؟..
أسرع خلفها يناوشه الألم والأمل.. بدا الأصيل مغموسا برائحة رطبة من جوف مبلول بتراب القبور ، مأهول بنعيب الصمت والفراق..
وجد الولد سليما معافا.. ماكان إلا دلع أطفال.. أخذته في حضنها.. نظرت إلى زوجها ونظر إليها في نظرة رسولية ملأى بالصمت والنوارس..
طال الصمت بينهما..هز الزوج رأسه، وخاطبها بهدوء: الدلوعة أولى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى