ماوية و أكرم العرب – حاتم الطائي السعيد عبد العاطي مبارك – الفايد
أماوي! قد طال التجنب والهجر، وقد عذرتني، من طلابكم، العذرُ
أماوي! إن المال غادٍ ورائح، ويبقى ، من المال، الآحاديث والذكرُ
أماوي! إني لا أقول لسائلٍ، إذا جاءَ يوْماً، حَلّ في مالِنا نَزْرُ
أماوي! إما مانع فمبين، وإما عطاءٌ لا ينهنهه الزجرُ
أماوي! ما يغني الثراءُ عن الفتى ، إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدرُ
—————-
وعندما كنت اراجع بحثا في كتاب ” الأغاني للأصفهاني ” استوقفني موقف تطليق ماوية زوجة حاتم الطائي له بسبب الاسراف في كرمه … !!
و خلاصته ان ماوية زوج حاتم الطائي، قامت بتغيير باب خيمتها، بعد أن انفق حاتم كل ما يملك، وترك ابناءه عالة على الاخرين.
وفي هذا يقول حاتم الطائي :
أماوي ان المال غاد ورائح ولا يبقى بعد المال الا الشمائل.
باديء ذي بدء الحديث ذو شجون مع قصص العرب و من ثم نتجول معا بين جبال طيء و حائل و نجد نتأمل صفحات مشرقة عن أجود و أكرم العرب حاتم الطائي و ابنته سفانة و زوجته ماوية !!
و ننطلق مع الموقف الأول : حيث ابنته سفّانة التي أطلق الرسول «صلى الله عليه وسلم» سراحها، إكراماً له، عندما تم أسرها بعد غزو المسلمين لبلادها التي تقع عند جبلي أجأ وسلمى (منطقة حائل حالياً.. في تلك المنطقة كانت مضارب قبيلة طي).. أما الرجل المقصود هنا فهو حاتم الطائي الذي اشتهر بأكرم العرب.
ولعل ما قالته سفّانة بنت حاتم الطائي للرسول خير ما يمكن أن يلخص حياة ذلك الرجل العظيم الذي سنتناوله اليوم من حيث كونه شاعراً لا كونه المثل الأعلى لمكارم الأخلاق قبل الإسلام:
يا محمد.. إن رأيت أن تخلّي عني فلا تشمّت بي أحياء
يا محمد.. إن رأيت أن تخلّي عني فلا تشمّت بي أحياء العرب.. فإني ابنة سيد قومي، وإن أبي كان يفكُّ العاني ويحمي الذمار ويقري الضيف ويشبع الجائع ويفرّج المكروب ويفشي السلام ويطعم الطعام ولم يرد طالب حاجة قط.. أنا ابنة حاتم الطائي.
فقال لها النبي (صلى الله عليه وسلم):
هذه صفة المؤمن حقاً.. لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه.. خلوّا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق.. والله يحب مكارم الأخلاق.
ويقال أنه ورث الشعر والكرم والجود أيضا من أمه
ويقال أن أخواله حجروا على أموال أمه، من كثرة ما كانت تصرفها على السائلين وليس على نفسها
وقد ورثت منه إبنته سفانة ذلك أيضا، حيث أنهم في وقت من الأوقات قالوا أن لابد لأحدهما أن يمتنع عن هذه الصفة حتى يجدوا ما يعينهم على المعيشة، وأخبرته إبنته أنها لا تستطيع ذلك، وقال هو أيضا كذلك، فإفترقا حتى يمكن لكل منهم العيش بما يملك .
نسبه :
هو حاتم بن عبدالله بن سعد بن الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم الطائي.. وكان يكنى بأبي عدي وأبي سفّانة وعدي هو ابنه.. وسفانة هي ابنته وقد أدركا الإسلام وأسلما.
توفي حاتم الطائي عام 605 ميلادية ولم يدرك الإسلام..
مواقف من الكرم الطائي :
تقول إحدى الروايات.. مرّ عليه ذات ليلة كل من الشاعر عبيد وبشر بن أبي خازم والنابغة فنحر لهم ثلاثة من إبله وهو يجهل من هم.. وعندما عرفهم أعطاهم كل الإبل ولم يبق لديه إلا جاريته وفرسه.
اقترن الكرم والجود والسخاء بحاتم الطائي، ونرى ذلك عند نقاشه مع والده عندما قدم لضيوفه كل الإبل التي كان يرعاها وهو يجهل هويتهم وعندما عرفهم كانوا شعراء ثلاثة عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني وكانت وجهتهم النعمان فسألوه القرى (أي الطعام الذي يقدم للضيف) فنحر لهم ثلاثه من الإبل فقال عبيد:
إنما أردنا بالقرى اللبن وكانت تكفينا بكرة، إذ كنت لابد متكلفا لنا شيئا، فقال حاتم:
قد عرفت ولكني رأيت وجوها مختلفة وألوانا متفرقة فظننت أن البلدان غير واحدة فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه، فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها وذكروا فضله، فقال حاتم: أردت أن أحسن إليكم فصار لكم الفضل علي وأنا أعاهد أن أضرب عراقيب إبلى عن آخرها أو تقوموا إليها فتقسموها ففعلوا فأصاب الرجل تسعة وثلاثين ومضوا إلى النعمان، وإن أبا حاتم سمع بما فعل فأتاه فقال له:
أين الإبل؟
فقال حاتم: يا أبت طوقتك بها طوق الحمامة مجد الدهر وكرما، لا يزال الرجل يحمل بيت شعر أثنى به علينا عوضا من إبلك فلما سمع أبوه ذلك قال: أبإبلي فعلت ذلك؟ قال: نعم، قال: والله لا أساكنك أبدا فخرج أبوه بأهله وترك حاتما ومعه جاريته وفرسه وفلوها. فقال حاتم في ذلك:
إني لعف الفقر مشترك الغنى وتارك شكلا لا يوافقه شكلي
وشكلي شكل لا يقوم لمثله من الناس إلا كل ذي نيقة مثلي
وأجعل مالي دون عرضي جنة لنفسي وأستغني بما كان من فضل
وما ضرني أن سار سعد بأهله وأفردنى في الدار ليس معى أهلي
سيكفي ابتنائي المجد سعد بن حشرج وأحمل عنكم كل ماضاع من نفل
ولي مع بذل المال في المجد صولة إذا الحرب أبدت من نواجذها العصل
ومن مواقفه أيضا:
حُكي أن ملكان ابن أخي ماوية زوجة حاتم الطائي قال: قلت لها يوماً: يا عمة حدثيني ببعض عجائب حاتم وبعض مكارم أخلاقه، فقالت يا ابن أخي أعجب ما رأيت منه أنه أصابت الناس سنة قحط أذهبت الخف والظلف وقد أخذني وإياه الجوع وأسهرنا، فأخذت سفانة وأخذ عدياً وجعلنا نعلّلهما حتى ناما، فأقبل عليّ يحدثني ويعللني بالحديث حتى أنام، فرفقت به لما به من الجوع، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال لي أنمت؟ فلم أجبه فسكت، ونظر في فناء الخباء، فإذا شيء قد أقبل، فرفع رأسه فإذا امرأة، فقال ما هذا؟
فقالت يا أبا عدي أتيتك من عند صبية يتعاوون كالكلاب أو كالذئاب جوعاً، فقال لها: أحضري صبيانك فوالله لأشبعنهم فقامت سريعة لأولادها فرفعت رأسي وقلت له يا حاتم بماذا تشبع أطفالها فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل
فقال والله لأشبعنّك واشبعنّ صبيانك وصبيانها، فلما جاءت المرأة نهض قائماً وأخذ المدية بيده وعمد إلى فرسه فذبحه ثم أجج ناراً ودفع إليها شفرة، وقال قطعي واشوي وكلي وأطعمي صبيانك، فأكلت المرأة وأشبعت صبيانها، فأيقظت أولادي وأكلت وأطعمتهم، فقال والله إن هذا لهو اللؤم تأكلون وأهل الحي حالهم مثل حالكم! ثم أتى الحي بيتاً بيتاً يقول لهم انهضوا بالنار فاجتمعوا حول الفرس، وتقنَّع حاتم بكسائه وجلس ناحية فوالله ما أصبحوا وعلى وجه الأرض منها قليل ولا كثير إلا العظم والحافر، ولا والله ما ذاقها حاتم وإنه لأشدهم جوعاً.
ومن شعره يخاطب امرأته ماوية بنت عبد الله:
أيا ابنة عبد الـلـه وابـنة مـالـك ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتـمـس لـه أكيلا فإني لست آكـلـه وحـدي
أخا طارقا أو جار بيت فـإنـنـي أخاف مذ مات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الـضـيف مـادام ثـاويا وما في إلا تلك من شيمة العـبـد
نهاية و مأساة تنهي حياته مع زوجته تطليقا بسبب ظاهرة الكرم :
————————————————————
و خلاصة هذا : ان بعض القبائل العربية أعطت المرأة حق مفارقة الزوج اذا اختلفت معه ووسيلة ذلك أن تقوم بتغيير باب الخيمة، فاذا قدم الزوج من أسفاره، ورأى باب الخيمة وقد تغير، فيقفل راجعا من حيث أتى..
و علي سنة العادة هذه فان ماوية زوج حاتم الطائي، قامت بتغيير باب خيمتها، بعد أن انفق حاتم كل ما يملك، وترك ابناءه عالة على الاخرين.
وفي هذا يقول حاتم الطائي :
اماوي ان المال غاد ورائح ولا يبقى بعد المال الا الشمائل.
و نختم بقصيدته الرائعة التي يخاطب زوجته ” ماوية ” في حوار بليغ يخبرها عن الكرم و السخاء و ان المال لا قيمة له فهو يروح و يأتي فيصور مواقفه برغم ماحدث له من شقاق معها قائلا في قصيدته ( أماوي! قد طال التجنب والهجر ) :
أماوي! قد طال التجنب والهجر، وقد عذرتني، من طلابكم، العذرُ
أماوي! إن المال غادٍ ورائح، ويبقى ، من المال، الآحاديث والذكرُ
أماوي! إني لا أقول لسائلٍ، إذا جاءَ يوْماً، حَلّ في مالِنا نَزْرُ
أماوي! إما مانع فمبين، وإما عطاءٌ لا ينهنهه الزجرُ
أماوي! ما يغني الثراءُ عن الفتى ، إذا حشرجت نفس وضاق بها الصدرُ
إذا أنا دلاني، الذين أحبهم، لِمَلْحُودَة ٍ، زُلْجٌ جَوانبُها غُبْرُ
وراحوا عجلاً ينفصون أكفهم، يَقولونَ قد دَمّى أنامِلَنا الحَفْرُ
أماوي! إن يصبح صداي بقفرة ٍ من الأرض، لا ماء هناك ولا خمرُ
ترى ْ أن ما أهلكت لم يك ضرني، وأنّ يَدي ممّا بخِلْتُ بهِ صَفْرُ
أماوي! إني، رب واحد أمه أجرت، فلا قتل عليه ولا أسرُ
وقد عَلِمَ الأقوامُ، لوْ أنّ حاتِماً أراد ثراء المال، كان له وفرُ
وإني لا آلو، بكالٍ، ضيعة ، فأوّلُهُ زادٌ، وآخِرُهُ ذُخْرُ
يُفَكّ بهِ العاني، ويُؤكَلُ طَيّباً وما إن تعريه القداح ولا الخمرُ
ولا أظلِمُ ابنَ العمّ، إنْ كانَ إخوَتي شهوداً، وقد أودى ، بإخوته، الدهرُ
عُنينا زماناً بالتّصَعْلُكِ والغِنى كما الدهر، في أيامه العسر واليسرُ
كَسَينا صرُوفَ الدّهرِ لِيناً وغِلظَة ً وكلاً سقاناه بكأسيهما الدهرُ
فما زادنا بأواً على ذي قرابة ٍ، غِنانا، ولا أزرى بأحسابِنا الفقرُ
فقِدْماً عَصَيتُ العاذِلاتِ، وسُلّطتْ على مُصْطفَى مالي، أنامِلِيَ العَشْرُ
وما ضَرّ جاراً، يا ابنة َ القومِ، فاعلمي يُجاوِرُني، ألاَ يكونَ لهُ سِترُ
بعَيْنيّ عن جاراتِ قوْميَ غَفْلَة ٌ وفي السّمعِ مني عن حَديثِهِمِ وَقْرُهذه كانت تغريدة الشعر العربي من بطون كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني حوت مواقف من حياة حاتم الطائي أجود و أكرم العرب مع الوقوف علي بعض مواقف زوجته ” ماوية ” و ابنته ” سفانة ” و ابنه ” عدي ” فهؤلاء جميعا شكلوا صفحات مشرقة من قصص العرب و الاسلام ما زال صداها بين الواقع مضربا للحكم و الأمثال ….