دراسات و مقالات

نوستالجيا الموت في قصة “فتحي اسماعيل”

بقلم : د. هداية مرزق / الجزائر

كثيرا ما نغامر صوب ألفاظ نستعيرها ونحن نرواد نصا عن دلالاته ومعانيه، فنتجول حاملين فكرة النص باحثين عن الأدوات الذي تمكننا من بناء قراءة تلاءم ما خطه المبدع ، محاولين سبر أغوار النص، متأملين أن ينفتح لنا وينقاد لقراءتنا، وهو ما دفعني لاستعارة لفظة نوستالجيا لما تنطوي عليه من أجواء نفسية وطبية تحيل على الحنين الشديد للوطن، أو الرغبة الجامحة في رؤية مكان له ذكرى خاصة، بل يمكن أن نقول أنه مرض عصي يرتبط بالحب الشديد للمكان/الوطن في ذهن الغريب، وقد وصف (بوهانس) النوستالجيا بأنها (مرض ناجم عن التعلق المفرط بموطن بعيد)، وقد ظن الأطباء النفسانيون أن ” المرضى يظلون مشغولين بذكريات موطنهم حتى يسحب العقل الدم من بقية أجهزة الجسم فيموت المريض”. ونظرا لأن المبدع فتحي إسماعيل قد وسم قصته بعنوان (محاولة أخيرة للموت)، وهو يحيل في معناه العام على رسوخ الفكرة في ذهن الشخصية، التي تعددت محاولاتها بلوغ الموت، ليصبح هاجسا يشغلها فتعيد الكرة في كل مرة، في محاولة الانتقال من عالم الأحياء إلى عالم الأموات، لأسباب لم تفصح عنها القصة التي بدأها القاص من نقطة تبدو في النص نتيجة لحالة نفسية (محاولة أخيرة) سبقتها محاولات.
وبما أن مفهوم النوستالجيا قد تطور وتحول إلى مصطلح جديد يعبر عن التعلق المرضي بأي مكان، ثم بأي أزمنة بعيدة أو أشخاص، فإن توظيفه للدلالة على الحالة المرضية والتعلق بالموت المعبر عنه ضمنيا بتكرار المحاولات يجعل من لفظة نوستالجيا ملائمة في تصدرها للموضوع كتشخيص لحالة نفسية تنتاب الشخصية التي يحيل عليه ضمير المتكلم فتوهمنا بتماهي الصوت/ الحالة مع صوت المؤلف، بل وبواقعية التجربة القصصية، حيث نجد الراوي يتمركز داخل عالم القصة ويتفاعل معها ويعبر بدقة عن أحداثها. وبعيدا عن ربط القصة بصاحبها سنحاور جدلية الموت والحياة فيها، إذ ينقسم المشهد الجنائزي إلى قسمين/مظاهرتين، ظلتا تعرقلان مسار الجنازة وتقدمها من المكان/المقابر، ورفض الأب لموت الابن بدعوى أنه ما زال صغيرا ( توقف النعش على أبواب المقابر فجأة، فقد كان والدي يتقدم مظاهرة من موتى عائلتنا تحول بين النعش والمقابر) وهي المظاهرة الرافضة للقادم الجديد إلى عالم الموتى، ومظاهرة الأحياء الرافضة لعودة الميت إلى الحياة (وما كاد النعش يستدير عائدا نحو البيوت حتى اعترضته مظاهرة أخرى يقودها أخي يتبعه أفراد عائلتنا الأحياء ترفض عودتي ، كان أخي يقف ثائرا وبيده دفاتر وأوراق …)، صراع غريب ورؤية ثاقبة لوضع مربك قد يكون القاص فتحي إسماعيل قد استلهم فكرته من أساطير البعث والحياة والصراع بين العالم السفلي الذي يمثله الموتى والعالم العلوي الذي يمثله الأحياء، في جدلية الصراع بين حب الحياة وحتمية الموت، لكن القاص يرافق حركية الجنازة الممثلة بالنعش الحائر بين واقعين، والتعلق بالموت المعبر عنه في قول القاص (أصابني غضب دفعني أن استجمع قواي وأفض الغطاء المزركش الذي يحيط بالنعش ، نهضت نازعا قماش الكفن عن وجهي، أصابت الرعشة المحيطين فتدافعوا ، نظرت إلى أبي بأسف، وتسللت من وراء العسكري مغادرا المقابر)، لكن الضغط الممارس على الجنازة ومحاولة فض النزاع بين الأحياء الرافضين لعودة الميت إلى الحياة، والأموات القابعين على بوابة المقابر الرافضين لاستقبال الميت الجديد، توجّه مسار القصة إلى عوالم وجودية، ولما كان الموت حالة من الهوس للشخصية التي حاولت تحقيق وجودها بالوصول إلى مبتغاها والسكون إلى الأبد في عالم الأموات بعيدا عن الصراعات والخوف والنفاق، وهروبا من احباطات الواقع الذي يفرض سلطته على الإنسان، تحول حنينه وارتباطه بالحياة/ المكان/ الوطن، إلى رغبة ملحة في الانتقال إلى عالم أخر/ وجود آمن، عالم الموت الساكن في هدوء في المكان/ المقابر، ظنا منه أنه العالم الأمثل بعيدا عن خيبات الراهن، فتصبح “نوستالجيا الموت حلا ناجحا للهروب من مشكلات اللحظة الراهنة “، وكأني بالقاص فتحي إسماعيل يقاضي الواقع ويكشف عوراته، ويحكم عليه بعدم الصلاحية لحياة متوازنة منصفة، عبر بوابة الموت التي تأبى أن تكون بديلا واختيارا وتجاوزا، إيمانا بأن الواقع متغير ومتجدد، وأن الحياة تحمل الكثير من المفاجآت، والمستقبل كفيل بأن يحقق أحلام الشباب الثائر على هذا الواقع، والرامي بنفسه بين أحضان الموت بصوره المختلفة (حرقا أو غرقا أو انتحارا معنويا من خلال استهلاك المخدرات وغيرها من الوسائل) وبشكليه، المادي والمعنوي وهذا في قوله: (إنه صغير وما زالت أحلامه محلقة، من سيحققها ؟)، فيأخذ النص منحى عجائبيا بين مظاهرتي الموتى والأحياء، وتخلص الجثة من كفنها والتسلل بعيدا عن الصراع الدائر بين الطرفين وتدخل رجال الأمن والعمدة لفض النزاع، والمعمم/ الدين، ويمثل الوجه الآخر للسلطة التي ترى في تعاسة ومعاناة الإنسان قدر وحق،(مت يا بني، الموت عليك حق) للخلاص من واقعه، وليسهل من جهود السلطة الرافضة الممثلة بالأخ ومؤيديه من الأحياء المتقلبين بين مختلف الإيديولوجيات في قوله: (ومع سقوط الشمس خلف الجبل الذي يحيط بالمقابر لم يتبق غير بعض المخلصين من حاملي النعش، وبعض المنافقين الذين يتبعون أخي، وعسكري أمن مركزي اتكأ بكتفه على حائط لبني متصدع… )، والأب ومؤيديه من الموتى الثابتين على رأيهم والمؤمنين أن المستقبل للشباب، في قوله (بينما مظاهرة الموتى لم يتغير فيها شيء بل أظنها ازدادت عددا وتماسكا)، نظرا للحالة المزرية التي يعيشها الإنسان في الواقع ، ما يؤدي للقضاء على الناس بالموت الحقيقي نتيجة الفقر والجوع والمرض، أو الموت المعنوي، وما أكثر الموتى الأحياء في عالم الواقع المتردي حين يمثل الموت الشخصية النوستالجية الباحثة عن الاستقرار وان كان هذا عبر الموت الحقيقي، والابتعاد عن صخب الحياة ومفارقاتها، ليتحول الموت إلى نوستالجيا لشخصية تمثل العذاب في أرقي صوره، شخصية تسعى إلى الموت فيرفضها، وتعود إلى الحياة فترفضها، لتبقى معلقة باحثة عن وجودها بين نقيضين، في ظل واقع يقتات فيه الإنسان من الهزائم وخيبات الأمل ما يولد لديه شعورا بالغربة والاغتراب، وهو ما يجعل تجربة الموت تتولد داخله من جديد ” معاناة أثمرت تجربة الموت ومن هذه المعاناة بدأت تتولد في أعماقه معاني الولادة والتجدد والبعث” على حد تعبير “أحمد المجاطة” ، وقد لا يكون الموت استسلاما بقدر ما هو تحمل مسؤولية حياة أخرى قد ينتصر فيها لنفسه مثلما وجدناه عند بدر شاكر السياب في قوله : (إن موتي انتصار)، أو ما رآه محمود درويش في جداريته حين قال: (هزمتك يا موت الفنون جميعها )، وقد تهيأ فتحي إسماعيل/ الراوي للموت مثلما تهيأ له محمود درويش، لكن محمود درويش عاد من جديد بعد أن مات للحظات كان يظن انها النهاية، بينما راوي فتحي إسماعيل لا زال يبحث عن قبر يأويه، ليرقد فيه رقدته النهائية، ولما ظلت روحه معلقة بين شد الموتى وجذب الأحياء اختار الهروب ثانية من الموت في تعلقه بالموت فيما يشبه النوستالجية المرضية.
فالقصة رسالة نموذجية، تحكي واقعا مؤلما، تصل به الفكرة إلى الضياع والبحث عن وجود، تحاول فيه الروح الانعتاق والتخلص من قيود هذا الواقع لكنها لن تجد الراحة أبدا، وهو ما أشارت إليه القصة في (مضت أزمنة وأنا أتجول بكفني القديم، أحصي الموتى العابرين إلى قبورهم وابحث عن رفيق يساعدني في خطة العبور دون خوف إلى موت آمن)، بأسلوب درامي يتصاعد كلما اقتربنا من نهاية القصة، فيصل بالقارئ إلى قمة المأساة التي يعيشها ميت/ رمز، في بحثه عن الخلاص والوصول إلى الموت الحقيقي/ الراحة الأبدية، وهو ما يعمق الفكرة ويعيدنا إلى نقطة البداية مع كل قراءة نحاول فيها الوصول إلى نقطة النهاية، فلا يفارق القارئ النص حتى وهو يحاول التحرر منه بالكتابة عنه، ليظل لاهثا بين عالمي الحياة والموت في رحلة أشبه ما تكون برحلة البحث عن الخلود في أسطورة جلجامش .

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى