دراسات و مقالات

قراءة نقدية لقصة اِنْسِلاَخ للقاص – حسان عبد القادر الشامي

عبدالعال الشربيني

القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة القصة القصيرة جدا

في البداية أحب أن أقرر أنى من أنصار المدرسة التي تعتبر أن ما اصطلح البعض علي تسميته ” قصة قصيرة جدا ” كجنس أدبي مستقلا ما هو إلا قص ينضوى تحت لواء جنس القصص القصيرة بتكثيف شديد فى السرد ذو الحبكة مع الحفاظ على كثير من خصائص القصة القصيرة مع مايترتب على هذا التكثيف من اختزال الشخوص فى السردية إلي شخصية واحدة غالبا يكشف عن سماتها الموضوع وليس العكس، وإن وجدت شخصيات أخرى فهي لدفع الأحداث باتجاه إبراز شخصية البطل.
لذلك أميل إلي جانب من سموه ” قصا مكثفا “.
————————————
أولا قراءة فى نص:

إِنْسِلاَخ
فوجئ الذئب حين تلاقينا في ذاك الكهف، مكث على مقربة.
راعه تحجر ملامحي.
لاطفني على مضض،
وثبت عليه، قبل أن يفطن لجثة أخي تحت قدمي.

****************************
العنوان:
اِنْسِلاَخ : هى مصدر الفعل الخماسي ” اِنْسَلَخَ ”
وفى المعنى:
1- تحول الحشرات من حالة لأخرى.
2- تحول جلد الحيوانات من حالة إلى أخرى.
3- وفى سورة الأعراف آية 175 ” أتيناه آياتنا فانسلخ منها”: نزع نفسه منها، أى جحد بها.
وانسلخ: انكشف، وانكشط.
وانسلخ من ثيابه: خلعها.
وانسلخ الحيوان من جلده أى بدله.

وفي هذا النّص نجد القاص قد نجح في أن يجعل العنوان سيّد النّص، و شريكه، بل تُرجُمانه، وعتبة المرور لكنوزه، والمُغَلِف لمعاني جمله، ولن اتجاوز إن قلت ولبعض كلماته أيضا حتى تصل رسالته كاملة واضحة عميقة تحفر في روح المتلقي مدى بشاعة البشر عندما ينسلخوا من إنسانيتهم.

في السردية التي تحت مشرطنا ندرك أن المضمون قصة يحكيها القاص بارتجاع زمني، حيث إن الزمكانية في القص المكثف هو أشبه بلقطة فوتوغرافية، تعبّر عن زمان ومكان متوافقين، إلّا أنها في نفس اللحظة قد تمثل تجربة زمانية كاملة .

الصراع الدرامى:
رغم الشح السردي الظاهر فى النص، نلمح الصراع الدرامي مخبوءاً بأعمدة رمزية، لها تفاصيل معروفة من الممكن مشاهدتها بصريا ولم يجد القاص حاجة لذكرها فاخذها التكثيف عفوياً، فقط علينا ـ نحن كقراء – الوقوف والتفكير ملياً لنتخطى العديد من الحواجز الظاهرة في البناء الفني للنص،
وهنا يتضح أن القص المكثف هو نوع صعب المنال والتناول، ويحتاج كاتباً مثقفاً ومتفهماً بصياغة الأعمدة الرمزية، التي تحمل في طياتها معانٍ كثيرة مكبوسة، لو انفرط عقدها لملأت صفحات غير قابلة للعد والحساب.

الحوار:
كان للغة الجسد فى نصنا هذا السيادة بين الذئب والبشري، فلا لغة للتفاهم بينهما غيرها، فاللذئب أشكالا جسدية يتخذها لتعبر عن مكنونات نفسه وتفصح عن حالته الذهنية تمكن البشرى من قراءتها وتصرف على أساسها كما في حالات:
• الخوف – يُحاول الذئب الخائف أن يُظهر نفسه أصغر حجماً وأقل لفتاً للنظر وإثارة للشك؛ فيُرجع أذنيه إلى الوراء حتى تُلامس رأسه، وقد يرخي ذيله بين ساقيه كما يفعل الذئب الخاضع. كذلك فقد يأخذ بالأنين أو ينبح نباحاً خافتاً يدل على خوفه، أو يقوّس ظهره.
• العدائية – يزمجر الذئب العدائي وينتصب فراؤه، وقد يجثم على الأرض استعداداً ليُهاجم.
• الشك – يظهر الذئب على أنه يشك في شيء ما عندما يُرجع أذنيه إلى الخلف ويُضيق عينيه. وعندما يشعر الحيوان بالخطر ينتصب ذيله موازياً للأرض.
• التوتر – ينتصب ذيل الذئب المتوتر، وقد يجثم على الأرض استعداداً للهرب.
• المرح – يرفع الذئب الراغب بالمرح ذيله عالياً ويقوم بهزه، وقد يقفز من مكان لأخر، أو ينحني أرضاً عن طريق خفض القسم الأمامي من جسده ورفع الخلفي، وهزه في بعض الأحيان. يُماثل هذا السلوك سلوك اللعب عند الكلاب المستأنسة.
أما تحجر ملامح البشرى تنبئ على الجمود وعدم نية الإقدام على فعل، وفى مناسبات أخرى على البلاهة، وقد يظهر البشري تلك الملامح المتجمدة ليخفي متعمدا ما يبطن وحتى لايفضح ما ينوى علية من خطوة تالية.

قراءة في النص السردي:

من أول وهلة يطلعنا السارد بلسان الأنا على لوحته، كصور متتابعة، تبين مواجهة بينه كبشري، وذئب،
ولكن لماذا كان الذئب هو الحيوان المختارفى هذه السردية وليس غيره؟

والأجابة تكمن في ذكاء السارد حيث اختار حيوانا له فى المخزون الثقافى لنا ـ كقراء العربية ـ صورة نمطية ترتبط بالشراسة والعدوانية والأفتراس، بل اتُخذ ” الذئب البشري” كتعبير يُوصم به أحقر وابشع مجرمي البشر، كما لم يكن الذئب يوما صديقا للإنسان، بل يتم دائما التحذير منه ووجوب الأحتراس من ملاقاته أو الأقتراب منه، كما أن الكتب السماوية تحدثت عن الذئب في هذا السياق:
يرمز الكتاب المقدس إلى الذئب 13 مرة، غالبًا على شكل استعارات تدل على الجشع والدمار،
وينص العهد الجديد على أن يسوع استشهد بالذئاب ليرمز إلى الأخطار التي كان تابعوه سيواجهونها لو لم يتبعوه “كراع صالح” فيقول:
“الَّذِي لَيْسَتِ الْخِرَافُ لَهُ، فَيَرَى الذِّئْبَ مُقْبِلاً َيَتْرُكُ الْخِرَافَ وَيَهْرُبُ، فَيَخْطَفُ الذِّئْبُ الْخِرَافَ وَيُبَدِّدُهَا”

وقد ذُكر الذئب فى القرآن الكريم ثلاث مرات فى سورة يوسف فى آيات تدور حول تلك المعانى، عندما قال سيدنا يعقوب والد النبي يوسف لأبنائه أنه خائف على ولده من أن يأكله الذئب إن ذهب معهم، فطمئنوه أن هذا لن يحصل، وعندما ذهبوا مع أخيهم ألقوه في الجب وعادوا قائلين لأبيهم أن الذئب أكله. الآيات” 11 – 17 “.

تبدأ قصتنا هكذا:
“فوجئ الذئب حين تلاقينا في ذاك الكهف”
ليصدمنا منذ الوهلة الأولى بأنقلاب الأوضاع، حيث أن المفاجئة كانت من نصيب الذئب وليست من نصيبه هوـ وفي ذلك “إنسلاخ” وخروج عن المألوف وطبائع الأمورـ فصراع القوى الجسدية المجردة ـ كما علمتنا التجارب ـ غالبا ما تكون لصالح شراسة الذئب وضراوته، ولأسنانه ومخالبه، وليست لوداعة الإنسان ومدنيّته، وكأن كل منهما إنسلخ من فطرته ولم يصبح هو هو!

ويستمر السارد فى إكمال الصورة مع الزمن ليؤكد هذا الإنسلأخ:

” مكث على مقربة،
راعه تحجر ملامحي،
لاطفني على مضض”

وكأن الذئب قد انقلب كلبا مستأنسا ينتظر متوددا، متوقعا أنيسا في خلوتهما تلك ـ التى فُرضت عليهما، ربما بمحض الصدفة ـ داخل ذلك الكهف الذي لجأ كل منهما إليه لأسبابه.

المكان:
والكهف ـ كمكان ـ لموضوع السردية كان أختيارا ذكيا موفقا من القاص، يتماهى مع عتبة النص فقد إنسلخ كل من السارد وكذلك الذئب من مجتمعيهما، فالكهف ليس ساحة قنص للذئب ولكنه مكان سكن وراحة واستجمام وربما لاستعادة نشاطه، وهو للإنسان كذلك إن انقطعت به السبل، ومعتزلا عندما يريد أن يستعيد سلامه الداخلى، وتجميع شتاته النفسى، وقد يكون له فيه مآرب أخرى!

النهاية ونقطة التنوير:
فى القص القصير عموما، والقص المكثف من باب أولى، يكون للخاتمة المباغتة أهميتها الكبيرة، حيث أن أفق القارئ يكون في هذا الجنس الأدبي مهيّئاً لهذا النوع من المخالفة والمخاتلة، ولا أبالغ إذا قلت أن النهاية في القص المكثف هي العمود الذي يقوم عليه موضوع النّص، وتبلور رؤية القاص التي أراد بثها من خلاله، وكأن النّص ما كان ليُكتب لولاه،

وخاتمة نصنا أتت هكذا:
“وثبت عليه، قبل أن يفطن لجثة أخي تحت قدمي”

وهنا تطالعنا المفارقة المدهشة الغير متوقعة والتي تفجّر في وجهنا حقيقة بشريتنا عندما تنسلخ من إنسانيتها لتتلبس بما هو ابشع ما فى الحيوان من وحشيّة وبريّة وحيوانيّة:
وثب البشرى على الذئب” المسالم ” ليُجهز عليه ” بلا سبب ظاهر مؤقتا من جانب الذئب ” ولم لا فقد عصف بأخيه وقتله من قبل، وخشي أن يكتشف الذئب دمويته فيعامله بمثلها.

الرسالة البرقية التي تضمنها النص:

كأن السارد يخبرنا في خاتمته خلاصة قصته:
” عندما ينسلخ البشري من إنسانيته فإنه يفوق الحيوان في بهيميته ويجتاز حدودا فى إجرامه لا يتصور أن يجتريء عليها كائنا حتى لو كان ذئبا، فالذئب لا يقتل أخيه”.

ولعلنا نلمح من طرف خفى ما يشير إليه القاص دون أن يتطرق كتابة إليه بل تركه لفطنة القارئ أننا أصبحنا نعيش زمنا كثر فيه المسعورون من بنى البشر الذين عاثوا في الأرض فسادا وقتلا لبنى جلدتهم، سواء أخوانا كانوا أو أبناء عمومه، وتنكيلا بهم على أوسع نطاق.

الشخصيات:
كما هو شائع بالقص المكثف، الموضوع هو الكاشف عن الشخصية لا العكس، ويتضح ذلك تماما فى نصنا إنسلاخ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى