قصة

معارج العشق

عبدالكريم الساعدي

إليكِ…
إلى: مَن أنتظرُ،
“كلّما حدّقتُ في مرايا الشيب،
تفترسني ملامحكِ الزاهية بعطر الأمس”.

قبل أن تلثمني ضحكتها، كانت الروح تحدّق في مرايا العطش، كنت ُ بعيداً، أمضي وحدي، أفكّك رغبة لها لون البنفسج، أتجرّع مرارة الغربة، أتسلّق ليالي الأحلام كما اللبلاب، لم يكن لدي متّسع من الوقت؛ لأنعتق من ذاكرة مكتظة بملامح تتحرك باتجاهات غامضة؛ ذات صباح كنت أحدّق في موج بحر أبيض، هالني ما أرى، أتساءل ” كيف تنتحر تلك الأمواج العاتية عشقاً؛ لتعانق صخور الشواطئ؟” حينها أيقنت أنّ الموجة كفراشة عاشقة لمواقد النور، تتفانى شوقاً لعوالم الفناء؛ مذ تلك اللحظة أصابني هاجس أنّي مفتون بالعشق لوردة أثقلها الندى، وانتظرت، حتى وجدتها صبابة شوق، أغنية عطشى لموائد حانتي، آهة حرى تطفئ حرائقي، كانت باذخة الجمال، زاهية كاسمها، وجدتها هناك بانتظاري، غصناً صحراوياً يرتجي زخّة مطر، خلسة وبهدوء شديد دخلت عالمي، استباحت حصونَ غربتي وخجلي، نثرت عطرها فوقَ شيبي، ترمّمُ ما تبقى من حيرتي بسحرها وبهاء روحها. كنت غريباً أرهقني البعد والحنين، قلقاً من هول المسافات، الممتدّة بين شيبي وجدائِلها الراقصة على أكتاف غصنِ بانٍ طري، تتمايل غنجاً على نغم الهمس والشوق، كلماتها نسمة صيف تثمل القلب، همسة تربك كياني، أحسستُ أنّي أهجرُ ظلمة أحزاني بعدما تسلّل ضوء البراءة من نافذة مشرقها ، دفنت آثار الحرب تحت ظهر مدينتي، غادرت عجزي وطقوس موتي، محلّقاً بسحر عالم احتضن جغرافية أسراري وبوحي. كنتُ لها ابتسامة تلثم شفتيها العذبتين، كأساً يهتزّ فرحاً بين يديها الناعمتين، ملأتُ فراغات طرقها المهجورة. ظلّ ما بيننا سرّاً، يلتهمنا شيئاً فشيئاً دون أن ندري، تؤانس غربتي، وطيفي يؤانس وحشتها. قلت لها مرّة وأنا مُدرك أنّ صوت القبيلة يعلو فوق ما نصبو إليه:
– إلى أي مدى ستنتظرين الأسى؟
قطبت جبينها، ارتعشت من سطوة الفراق، قالت:
– وهل تنطفئ جذوة الأمل؟
يغمرني موج دهشتها، ترميني بدثار الأحجيات:
– كنتَ كاهناً تغزو فتنة الشهد، تفتضّ صومعة العشق، أيَّ وجهٍ تروم بعدي، وقد أطلقت في ثنايا الشوق ماءك الدافق؟
غطّت عينيها بالدمع، توارت بين مقلتيّ، تحمل مراسيم تشييع أطيافنا التي لم تكتمل بعد. طوّقتها بأعذار الشيب والسفر، داهمتني بسرعة مذهلة، تغتال كلّ أعذاري المثخنة بالخجل:
– وهل تتركني كحبات قمحٍ في هذه الحقول الموحشة ؟
– لكنّي غريب، ودوماً على سفر…
انتظرتْ سفري طويلاً لتودعني بدمعها، وهي مازالت تحلم أن أعود لواحة قلبها ولو بعد حين، وانتظرتُ آخر المطاف؛ لأعانق آخر الهمسات:
– لا عليكَ سأتسلّق قصائدكَ همساً، أنثر عطري فوق حروف علّتها لأغفو، فأنا لا أروم غير نشوة نهرٍ أو غيث ٍ، يرتّل أنفاسكَ اللاهثة، أنا قيظ لا يبارحني العطش، فكيف أعتق رضاب حرفك وللبوح صدى؟
– أنا مثلكِ، يوجعني الغياب، لكنّا لم نختر الفراق، الحلم الذي توقف هنا، عند صباح وجهك الجميل، سيأتي، وأراكِ، وأراكِ كما أنتِ، أشمّ عطرك الذي ملأ محطات الوداع، أشمّ أنفاسكِ اللاهثة حين يطلّ ليلك، وأراكِ تخلعين دثار مفاتنك؛ لتغطي شيبي، حتى تشبّ حرائق الشوق، وأسمع فحيح النجوى، نتوحد، ننسى مرارة الفجر، وفي غفلةٍ منّا يلثم الليل غفوتَنا في خشوعٍ ساعة السحر، وتلقين السلام كعادتك:
– إلى اللقاء.
عند محطة الوداع وقبل الرحيل بخطوة كنت أعلم أنّنا لن نلتقي مجدّداً؛ أترك آثار الخطى على طرق مهجورة، ستذكرني يوماً ولو بعد حين، أغنية قديمة تعلو حنجرتي بلا وعي منّي، تتسلّق أنفاسي ” كلّ كده كان ليه لمّا شفتُ عينيه…” يرتجف قلبي شوقاً، نار تستعر في شراييني، تتثاقل خطاي، ألتفت، أناملها الناعمة تحلّق في فضاء من أسى، تشير إليّ، تعانق عيناي تلويحة يديها عن بعد، ترتعش في أعماقي رغبة مجنونة؛ لأجري نحوها، كي تمنحني عناقاً مرة أخرى، تجاهلتها عن عمدٍ، وأدرتُ ظهري لبقايا دمعٍ، ما زلتُ أحتفظ به.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى