قصة

مرايا الشيب

عبدالكريم الساعدي

ما كنت أدري أنّي دوّنت أنين النزلاء / كبرياء الأمس، بعدما لفظتهم لوعة مطوّقة بالإثم، كما غصن لفظته أزهاره. غربة، وحشة، وعزلة برقت بها سطوح مرايا الشيب، محمولة على هدب نسائم هبّت من ضفاف دجلة. كان المكان يوشوش بالصمت والهدوء، يحلّق في سمائه صراخ يشخب بالوجع، صراخ يتلاشى في هدأة النسيان، وعيون تقطر دهشة وندماً، مكان اتكأَ فوق عجز نزلائه. امرأة لم يبقَ منها سوى سحاب عقيم، فتشكّل الألم فيها قصائد شوق، وأخرى ترتعش بدثار الخوف. أجسادٌ خاوية مرّ بها المكان أرقاً، يبوح بسرّ مكتوم. ثمة رجل ستيني لن يطأ غير حرائق الأمس، تصالح مع المكان، اعتصم بنافذة وجع، يندلق منها كون من أنفاس عالقة بالدفء، فيتبع أثرها. دنوت من عالم مشدود بغسق الأمس، يستتر بأوراق تراقص عري خريف مسكون بالغرق، حاورتهُ حفاة من ضجيج الغد، جلست على ناصية وجعهِ؛ فانثال الحوار على ضفة الغياب، قلت:
– كيف تتعقب أصداءك الغائبة؟.
يخرسه السؤال، يكتم شهقة، يخنقه الأسى، يزرع عينيه في عنق شعاع مندلق من نافذة الغرفة، يبتلع صمته:
– حين أزدحم بالقلق وبعض الجنون، يظلّلني رمش الأرق، يحاصرني التأوه، أختنق بعتمة العزلة، فتراني حائراً بين لسعة نوبة بكاء، وبين صوت الأمس، يا ترى من ينثر نداه، نثار الدمع أو حفيف الأمس؟. أياً كان – حينها – أنفض طبقات الأرق/ الخواء، فأتأبط حلماً، أعانق نوارس ظلّي، فأنام، لا فرق بين الدموع والتدلي من أنشوطة الالتياع، كلاهما ينزع صمتي /حيرتي.
– ماذا تنتظر من يومك؟
فرّ إلى نافذة الوجع، يلتهم مرارة صمته، فجاءت كلماته من فم ماضٍ يغشاه مدّ بعيد:
– أمس كنت وحدي، أجلس في ركني العتيق، أسرد ذاكرتي للأشجار والطيور، للنجوم والأقمار، لقرار البحر، ولنبع ماء صافٍ، أحلّق في فضاءات الجمال، أحيا وسط أحزاني و آلآمي الجميلة، أبثّ أشجاني، أعتقل لحظة قادمة من المجهول، تتجعد أمام مرآتي، أسمع صدى بكائها داخل روحي، راسمة وجهاً زاهياً بالبهجة والسرور، طاردته منذ طفولتي، وبعد أن أشحذ من ذاكرتي أجمل اللغات، أعبّئ كلماتي في كتف الصباح، أغادر جسدي رقصاً، أتوارى خلف الخطوات، أهيّج أحلامي، معانقاً وهج الرحيل.
أطلّ من زحمة الحنين على وحدتي، فأستفيق على ملامح وجهها في الفراغ، أطارد عطرها، ألمسّ ضفائرها، أتسلّق همسها، فيأخذني الحلم بعيداً، إلى أقاصي المنافي يأخذني، فتراني أسقط من غصنِ شجرة دفلى وسط الخراب، أتدلّى فوق عتمة بركان يفور، نعم أتدلّى فوق عتمة بركان يفور، وأغرق منسياً هناك.
قلت: وبعد.
– أمس، سألتها “هل تستطيعين معي صبراً؟”. كانت الكلمات تلهث فوق الشفاه، تتسلّق أحلاماً عطشى لمرافئ الهوى، حدّقت في أحلامها، دعوتها إلى مرابع صدري الخضراء، وهي تطرّز خريف الأيّام بعين توسدت نعاسها، صلّينا على عهد جميل، وانتفضنا مثل عصفورين بلّلهما القطر. علا الشوق وغرق نصف العالم في ساحل منفانا.
وبعد:
– أمس استيقظ الشوق بين أضلعي، هيّجت الذكرى ألوان الطيف، فرأيتها تستظلّ بظلال الروح، تصلّي لعدم الرحيل. سألتها:
“أين بريق الشوق على محيّاك؟”.
قالت:
– وهل أنا مفتونة بالانتظار؟ أحوك الخطى دروباً للآت!. أمس أدركت أنّ الوحدة هي كهفي الذي لن يشاركني أحد فيه.
قلت:
– وماذا تنتظر من يومك؟
– اليوم أطل على أمسي، أصطاد وجوهاً غاصت في الذاكرة، في كلماتي، أراها ولا تراني، اليوم أعود لأمسي، أحزم عطشي حلّاجاً، يحمله شوق الجراح لمرافئ الهوى…
ثمّ استدرك وكأنّه نسي شيئاً ما، همس في أذني:
– ما بين الأمس واليوم، أدركت أنّها مسافة وهم، تنعي بقايا نشيج عاثر برفيف صمت أثقله النعاس، دموعاً في وكناتِ الحزن.
قلت مستغرباً:
– ما الذي يجعلك تعتقد أنّها مسافة وهم؟.
ابتسم ابتسامة شفيفة:
– يا صاح، وهل يوجد بينهما برزخ؟
– أ تعني أنّهما يلتقيان؟
تيمّم غفلتي مستغرباُ:
– ولِمَ لا؟ وأنا مكبّل بخلخال الأمس، إنّها أقدارنا.
عصيت رجفة الاستغراب، ولم أفهم شيئاً، يرتبك الجواب، أراوغ المعنى:
– لقد تأخر الوقت، سنكمل حديثنا عند أقرب فرصة.
ودعته على أمل اللقاء. بعد يومين عدت وأنا كلّي شوق لأملأ كأسي من إيقاع ثمالته، من نبع أنينه، أصابني الذهول حين تعثّرت بظلّ امرأة ترقد مكانه، تتأبط صمتها، ترتشف قهوتها على مهل، تتلو صداه. أحدّق في محراب عزلته، كان مزدحماً بالغموض، مترعاً بالحسرات؛ صوتها المتّشح بالألم يقطع أوصال حيرتي:
– لقد حزم حقائبه بالأمس ورحل، يرتجي ظلّاً يغطّي عراه.
– ولماذا استعجل الأمر؟ أما كان بوسعه أن ينتظر قليلاً؟
– حين أطلق أحلامه المنسيّة اغتاله الفجر، كان فجراً كاذباً.
عيناها تحلّقان في مدارات غائمة، ملامحها تنزّ جراحاً، تفترش حكايتها على ضفة ابتسامة خجلى، خيط من ضوء ينسلّ من طرف النافذة، يحاذي أمسها، يمطر نداها:
– سنتبادل الأدوار.
تطرق رأسها، تنبش برمش عينيها ليلاً غجرياً متّشحاً بالحزن، تلعق بقايا وهجٍ
هاربٍ من مداه:
– في الأمس زرعت الفرح في أرضه، نثرت ضوء العين في دربه، ولمّا أزهر بستان الروح أملاً تقيّأ أشلائي، صبرت على مضض، نثرت حفنة دموع فوق شرفة حزينة، يلوكني الخواء، تلتهم سنابك خيل الإهمال خطواتي، لا بصيص أمل، ما كان لي إلّا أن التحفت عجزي/جنوني. في الأمس…
أتأمل حكايتها، أغيب في وهج مصابيحها الدامعة وأغرق في مجرى من دموع. هو ذات الأمس، أفترش أهداب المكان، تفزعني مقل تحدّق في الضباب، تنتظر أدوارها، تعدّ ما تبقّى من عمر، كلّما أحدّق فيها؛ تفترسني ملامحها العاطلة، أملأ أوراقي زفرات منها وأرحل، يقطفني وجع أسرار مغيّبة، لكنّي على يقين ثمّة عجزة خارج أسوار المبنى.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى