مستوى التبئير في المنهج الذرائعي
عبد الرحمن الصوفي
حركة التصحيح والتجديد والابتكار في الأدب العربي
لجنة الذرائعية للنشر
مستوى التبئير في المنهج الذرائعي علمية وميكانيكية النظرية الذرائعية التي تعد واحدة من منهج المعنى الذرائعي الواسع، أفيدكم علمًا بملخص لعمود من الأعمدة الذرائعية التي طوّف بها المنظر العراقي (عبد الرزاق عوده الغالبي) ضفة العلم على ضفة الفلسفة على جانبَي نهر الأدب:
تأخذ الذرائعية النص الأدبي وتغوص فيه بمستويات واستراتيجيات علمية (نفسية وبحتية) متتابعة كثيرة, لتحصي كل شاردة وواردة فيه ، بنقد علمي إثرائي يثري النص والنصّاص معًا, و يفلتر ما يفيد المجتمع من نفحات الأدب، لذلك هي تفصل بين النقد العلمي والانتقاد السلطوي الإنشائي الذي نراه الآن في ساحات الأدب العربي, فهي تغرق النص في كل مستوى من المستويات الذرائعية المتعددة لتتفحص جزئياته بدقة متناهية.
مستوى التبئير Core Level:
يستهل المنظر العراقي (عبد الرزاق عوده الغالبي) ذرائعيته ببؤرة ثابتة
( Core) ( 1)بذريعة الثيمة (theme or gist), ليعطي ملخصًا ينقل فيه روح النص، مشيرًا بتجذير فلسفي بأن النص صناعة إنسانية يقوم بها (نصّاص) مختص يبني نصه على بؤرة ساندة ينتقيها من هموم الناس في المجتمع, منطلقًا من المنظور الذرائعي ) الأدب عرّاب المجتمع(، يقابل الفائدة بالإسناد الأنثربولوجي للمحرك الإنساني في الحياة لكل فرد داخل المجتمع، وتلك قضية من موجبات الأدب الرصين، يشترك فيها ضفتي نهر الديمومة, بحفظ المعرفة الجارية في استمرارية الوجود بين العلم والأدب, بعد تزكيتها بنقد علمي بناء، حاملًا السلوكيات البشرية التي تصب بمحيطات الإنسانية، لذلك تناقض الذرائعية فكرة التمركز على (اللاغوس) مقابلاً للصوت، التي مركز عليها التفكيكيون نظريتهم, وعند التمركز على الكتابة يكون التفكيك هداماً و يمكن تعريفه بأنه رفض لأولوية الروح وسلطة الوسيط ، و تحدٍّ لما هو أخلاقي، والانغمار في الحياة الدنيوية، والدعوة لإختفاء الرب او موته… ويعدّ (الغالبي) ذلك هروبًا نحو التعقيد والجدل غير المثمر بالنتائج ….
——————————————
1 – عبدالرزاق عودة الغالبي – الموسوعة الذرائعية – المجلد الثالث – الموسوعة الذرائعية في التطبيق .. الذرائعية الطبعة الثانية المنقحة – دار النابغة للطبع والتوزيع – جمهورية مصر العربية –
——————————————–
وقد أبرز المنظر العراقي (الغالبي) بنظرته المعاكسة والمستندة على مبدأ تمركز ذرائعيته على القرآن الكريم المكتوب بيد الخالق والذي أقرّ وجوده بالوعي والبرهان حين يأمر أصحاب اللغة وينهاهم عن فعل لا يرضيه في (سورة الشعراء :الآيات 224 و225و226و227) منطلقًا له، وكأنه يريد أن يقول للتفكيكيين (أنكم تريدون من الله أن يخاطبكم لسانًا في كل مرة يوجّه فيها أمره لخلقه ليثبت وجوده ، مادامت دلالاتكم محكية فقط ) , وهذا الخطاب الذرائعي يخلق عقبة أمام الناقد لا شأن له بها حتى وإن كان إعتقادهم الراسخ بأن كتابة النصوص – وحتى المقدسة منها- تعدّ في نظرهم اختلافًا تشير نحو موت الإله، وتلك جدلية معتمة وطريق مغلق، والحقيقة اللغوية تثبت تسمية النص بنعته عند كتابته وليس لفظه… وهذا القول أو الاعتقاد بحدّ ذاته يعدّ خروجًا لغويًّا ووجوديًّا عن الواقع العربي المتدّين بالخلق والإنسانية، تثبته سورة الكرسي وسورة الإخلاص وسور وآيات كثيرة في القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى بما يخصّ الإله, أما ما يخصّ الكاتب, فالنص المكتوب لا يبرهن موت كاتبه, فهو يتجاوز فلسفة الحضور والغياب, فهو دلالة حيّة وإن مات كاتبها…
أن الفلسفة الأوروبية من( 2 ) عهد أفلاطون ارتكزت على مبدأ احادي رغم وجود فلسفات ثنائية و تعددية و ثائرة على كل نظام، إلا أن الغالب منها هو التيار المتمركز على مبدأ الاحادية ، ويبطن تلك النظرة الأحادية البعد والامبريالية المعنى، الوعي هو الحضور في حد ذاته، او الوجود المسمى بـ(الذات) ، وهذا الحضور الذي سماه هايدغر بـ(التحديد الأنتولاهوتي للوجود) ، وبعدها لم يعد الوعي أرضا آمنة لمدلولات المعنى ، و لم يعد ذلك الخالق المكتفي بذاته، وقد بينت ساره كوفمان في كتابها “قراءة دريدا” ( 3 ) ذلك بوضوح، حين أعلنت أنه رغم أن فرويد قد فهم اللاوعي كنظام لا مكان له وهو يتسم بصفة الحضور لكونه يولد اللانظام في عالم الأنا كمفهوم الكتابة أو الاختلاف عند دريدا، يهز بنيان الميتافيزيقا بقوة…
إن أول من فهم أهمية الاختلاف هو سوسير واعتبره شرط إمكانية عمل الدوال ، فاللغة عنده نظام من الاختلافات، ولا وجود لبنية دون إختلاف وحداتها، و لن يبرر دريدا كتابته لكلمة”اخت(لا)ف” بشكل غريب، لأنه ليس حبيس منطق جدلي. المبرر المنطقي لذلك هو يتجلى بإمكانية قراءة وكتابة هذا الاختلاف الإملائي و لكن ليس بالإمكان سماعه ،لأن الاختلاف يتجاوز كل الأشكال الثنائية فالحرف الأول من الأبجدية اللاتينية يغيب أحيانا، فالاختلاف عند دريدا ، استراتيجية ومغامرة ،الاستراتيجية تشير الى عدمية وجود حقيقة ترنسندنتالية (transcendentalism) تحكم الكتابة، فالكتابة ضد كل أشكال
——————————————–
2 – رشيد بوطيب – دريدا : تفكيك فلسفة الحضور مقالة .
3 – Derrida lesen ” Sarah kofman .Edition Passagen – site : 53
——————————————–
الأنتولوجيا واللاهوت. والمغامرة، لأن الكتابة لا تسجن نفسها بهدف معين أو باستراتيجية تسعى
للبرهنة على صحة مقدماتها وامتلاكها من جديد. والاختلاف ليس مسكنا جديدا للحقائق والمدلولات، بل مشروعا تفكيكيا، تبرز ملامحه بوضوح ضد سوسير وبنيويته . فالدال عند سوسير يظهر للوجود لحظة غياب الموجود، لذلك فهو ثانوي والاختلاف نتيجة ذلك ليس له إلا وجود مؤقت. ويحاول دريدا تجاوز هذا الاختلاف المؤقت الذي يظل حبيس الحضور، ولسانيات سوسير، رغم احتفاءها باللغة وبالدليل، تظل سجينة الميتافيزيقا حسب رأي دريدا ، وهكذا أحتفل دريدا بالكتابة ضدا للوعي لكونها أنثى والوعي يخشى كل ما هو أنثوي، يخشى تحويله إلى كتابة، لأن ذلك يفقده قدسيته وتعاليه، فالكتابة إيذان بموت الخالق وتجاوز لمنطق الهوية…..
ويهد داريدا بهذا المد اللاهوتي إلى سحق البنيوية, والبدء بتيار جديد يدعى (ما بعد البنيوية) لمجابهة الميتافيزيقية السوسيرية، حين يقرّ فكرة ديناميكية المعنى وحركته المستمرة، وبذلك ينفي التمركز في المعنى بنيويًّا, و يرى أن ” البنيوية تبدأ من البنية, لذلك يشكّك بالعلامات الدلالية، لأنها تنتج تزامنًا مسبقًا قداسيًّا يتعلق بخلود الله في المستويين المحكي والمكتوب، ولذا يهتم دريدا بتمزيق البنية وتفكيكها، وينفي قطعيًّا وجود بنية أو تمركز داخل النص, بل يحاول بنيانه خارج النص وداخله، فتنتج تلك الفكرة تناوب بين التمركز واللاتمركز، قاد ذلك نحو تفتيت الميتافيزيقا البنيوية السوسيرية، و نظام المتعارضات البينية الذي سلكه المنهج البنيوي, الذي يفضي نحو تطبيقات أيديولوجية، ومنها يبدأ برسم حدود ثابتة بين ما هو مقبول ومرفوض، وذات ولا ذات، صادق وكاذب، معنى ولامعنى، عقل وجنون، محوري وهامشي، سطحي وعميق …
ومن ذلك أظهر داريدا بأن المنهج البنيوي ذو أبعاد ميتافيزيقية أيديولوجيا، وقرن دريدا هذا المفهوم بفلسفة الحضور والغياب، ودريدا في تفكيكه الذي مارسه على مستوى المقولة السوسيرية عن (الاختلاف)، يصل إلى مقولته التي تتناقض بالكامل مع مقولات “سوسير” عن حدوث الدلالة( 4 )، التي تتحقق بمطابقة الدال لمدلول معين, ولكي تتحقق الدلالة قال “سوسير” بأن اللغة نظام علامات( signs) تحكمه علاقات الاختلاف. فالعلامة تكتسب معناها بسبب اختلافها مع علامات أخرى، لا لصفة في ذاتها، هذا التطابق عند “دريدا” لا يحدث أبدًا، لأن الدال لا يستقر عند مدلول معين، منتجًا بذلك لمعنى أحادي أو حقيقة ثابتة، طالما أن المدلول في حالة مراوغة دائمة للدال، فإن ذلك يعني انفتاح النص على التأويل وإعادة التأويل لو كتب, أو تأجّل زمنيًّا خلف لحظة التكلّم، في حين أن العلامة اللغوية بالنسبة لدريدا تؤكد الغياب، ويرى أن كل علامة تؤدي وظيفة مزدوجة هي الاختلاف والتأجيل, ولهذا السبب تكون بنية العلامة مشترطة من قبل الاختلاف والتأجيل, وليس من خلال الدال والمدلول, بمعنى أن بنية العلامة هي الاختلاف الذي يعني أن العلامة شيء لا يشبع علامة أخرى, وشيءغير موجود في العلامة على الإطلاق, ومن هذا الجدل العقيم ينتج إن التفكيك هدام ولا يخدم او يتوافق مع النص العربي أو المثل والأخلاق العربية الإسلامية ،وإن المعاني المؤجلة عند الذرائعية هي الهدف, حين نظرت للقضية بمنظور معاكس تمامًا, واعتبرت هذا الغياب حضورًا لسلسلة من معاني عديمة النهاية، ينتج حضورًا للمدلولات الذرائعية التي تتجه نحو مفهوم يسوّرها ليمنعها من الخروج من نطاقه، لكونها أوضاعًا لغوية لسانية و ذرائعية مصنوعة بدقة و جمالية فائقة الاختيار تثبت إن النص المكتوب هو أكثر أدق صياغة وجمالاً وتوثيقا بمدلولاته من النص المنطوق ،و في نفس الوقت تثبت حضور فاعلها بمعكوس عدمية الخلق وتحت وجود الخالق ورعايته وليس موته…..
ومن الناحية النقدية فإن داريدا صاحب التفكيك هو رجل فيلسوف وليس ناقدًا أدبيًّا( 5 )، وضع أسس فلسفة الحضور والغياب بمبدأ حضور الآله (اللوغوس) الذاتي وغيابه، ولكن زجه الفلاسفة و الباحثون في متاهة النقد الأدبي بكتاباتهم المستمرة عند حياته, حتى كسر ظهر الدلالة بغرافية التمركز و الاختلاف, بقوله: اللغة حين تُكتَب تصبح ظلًّا للدلالة المنطوقة، لأن (كتابتها تشهد موت الإله), فهي إذًا ستنتج اختلافًا في المعنى, قد يجيء مغايرًا لها حين تكون منطوقة, وعليه فقد كتب بعض الكلمات بهجاء خاص خاطىء، ليثبت أن تلك الكلمات تلفظ كلفظ هجائها, وهي في الوضعين الهجائي الصحيح و الخاطىء، لكن معناها سيكون مختلفًا عن دلالتها المكتوبة في الحالتين أيضًا، ومن هنا انطلقت الذرائعية بتثبيت أقدامها على أرضية النص المكتوب, بشكل مغاير تمامًا لما ثبته داريدا آنفًا……وذلك باللجوء لحيثيات تسلسل المعنى بشكل يعكس حالات لغوية ذرائعية ومفاهيم منفصلة, تعطي أوضاعًا اجتماعية, تثبت صوريًّا, وتدرك في قناة التواصل بشكل مختلف حسب إدراك التأويلات السياقية التي توجهها اللغة الساندة(Discourse Language) داخل العقل البشري طبقًا للسلوك البشري في إدراك النصّاص العقلي, والتوليد التشومسكي في مركز اللغة في المخ البشري بالعمليات الفسيولوجية العقلانية حسب مراحل آلية الإدراك….
—————————————–
4 – عن فلسفة الحضور والغياب
5 – الدكتور نبيل راغب – موسوعة النظريات الأدبية ص 230 و 232
– عبد الرزاق عوده الغالبي – الموسوعة الذرائعية – المجلد الثالث – الموسوم الذرائعية في التطبيق – المستويات الذرائعية – رشيد بوطيب- دريدا: تفكيك فلسفة الحضور – مقالة
– Derrida lesen » Sarah Kofman, aus dem Französischen von Monika Buchgeister und Hans-Walter Schmidt, – الأستاذ مجدي عز الدين – مقالته – المنشورة في موقع الحوار المتمدن محور الفلسفة- تفكيكية جاك دريدا: نقل سؤال الحقيقة إلى مجال – الدكتور نبيل راغب – موسوعة النظريات الأدبية – ص230 و231