قصة

قصة قصيرة … مصطفى الحمامصى

على حزين

الوقت في الساعة العاشرة مساءً, المكان في غرفة نومي , الحالة شبه استرخاء على السرير أقرأ على زوجتي آخر قصيدة , كالعادة , لتبدي رأيها فيما كتبت ..
وما أن فتحتُ الهاتف إلا وجدت بأن هناك اتصال من صديق عزيز, وذلك منذ سبع ساعات , وأنا لم أنتبه له, ففرحت أيما فرح وفي نفس ذات اللحظة حزنتُ حزناً شديداً على أني لم أنتبه لتلك المكالمة كل هذه الفترة, والتي ربما قد تكون مهمة بالنسبة لي, وكان ذلك لعذر قهري, واكتشفت بأن محاولة الاتصال لم تكن مرة واحدة بل أكثر من مرة .. فقلت في نفسي :
ــ لابد أن الأمر مهم ..!,
خاصة أن هذا الصديق نادراً ما يتذكرني برنة منذ أن تبادلنا أرقام الهاتف, فأغلب لقاءاتنا في الأمسيات والمؤتمرات وفقط … المهم ..
حاولت الاتصال به لكنه لم يرد فعاودتُ الاتصال به أكثر من مرة حتى يئست, فلاحظتْ زوجتي انشغالي واهتمامي بالأمر, فسألتني عن السبب, فأخبرتها, فأنا من عادتي بل من طبعي لا أُخبِّيء شيئاً عنها, أنا ليس لدي أسرار كي أخبئُها عن الناس فضلاً عن زوجتي , حياتي كلها كتاب مفتوح , وإن شئتم الدقة أنا كتاب مقروء وليس لديَّ وجهان كما وأن الذي في قلبي على لساني, ودائماً ما بداخلي يظهر على وجهي مهما حاولتُ أن أخبئه أو أخفيه …..
لحظات من الصمت سادتْ في المكان, وانطلقتْ الأفكار تجوب في رأسي راحت وجاءتْ , وعقلي ذهب كل مذهب , ورأسي ذهب بعيداً, توقعات , تحليلات, افتراضات, هنا وهناك ……
قالت زوجتي لمَّا رأتني هكذا :
ــ خيراً إن شاء الله .. ؟!!..
فقلت لها , وأنا حزين جداً لهذا الأمر,
ــ أكيد الموضوع مهم ,
ــ ………
ــ أكيد ندوة يريدني أن أذهب إليها لذلك اتصل بي, وما دام الموضوع من سبع ساعات إذاً تصرف واتصل بشاعر أو أديب آخر غيري ….
لم أكمل جملتي وكلامي معها حتى رن الهاتف من جديد, فأسرعتُ, رددتُ عليه , وأعتذرتُ له بأنِّي كنتُ مشغولاً في الخارج حين رن الهاتف, وبأنِّي اتصلت به أكثر من مرة, وأنِّي ….
فقال لي وصوته لا يكاد يبين :
ــ لا عليك يا أخي ,
ثم أردف يقول بصوتٍ ضعيفٍ فيه غصة ويغلِّفه الحزن والأسى
ــ أكيد تريد أن تعرف لماذا اتصلتُ بك ..؟!! ــ
فقاطعته وأنا متلهف لمعرفة السبب , والوقوف على سر الاتصال الغريب هذا ..
ــ أستاذنا, أنا سعيد جداً بهذه المكالمة, وبسماع صوتك, والوقوف على أخبارك ..؟!!.
كان صوته يأتيني عبر الأثير مخنوقاً وليس كعادته وفيه من الحزن والفجيعة ما فيه, فما
عهدتُ صوتهُ إلا شاباً مليئاً بالمزاح والنشاط والحيوية والفكاهة, لكن هذه المرة صوته كان ضعيفاً ونبراته فيها غصة حزينة يملأها الأسى, …………
وبعد السلام والتحية والسؤال عن الحال والأحوال والأخبار, أخبرني عن سر المكالمة, لينكأ عليَّ الجراح ويذكرني بإنسان عزيز جداً وغالي لديَّ, ويعلم الله مكانته في قلبي وكم أنا أدين له بالفضل وبالجميل فكم له عليَّ من أيادٍ بيضاء طوَّق بها عنقي, وكم من جميلٍ أسداه إليَّ , لم ولن أنساه أبداً ما حييت, والله يعلم كم أُكن له من الحب والاحترام والتقدير,………..
طلب مني أن أقول فيه شيئاً, أو بمعني أدق, طلب بأن أكتب عنه شيئاً, من أجل أن يضع ما أكتبه عنه في كتابٍ مجمع يضم كوكبة من الكتاب والشعراء والأدباء الذين كانوا يحيطون به ويكون بمثابة لمسة وفاء من محبيه تُقدَّم له في حفلٍ كبير لتأبينه في ذكراه, وأعطاني مهلة للغد, فوعدته بذلك, ثم أنهى المكالمة بالسلام , ……..
وما إن قفل هاتفه حتى انتابني شعور بالحزن وقشعريرة تملكتْ عليَّ كل جسدي, وفي رأسي تداعت الذكريات الجميلة, تجمَّعتْ, تدافعتْ, وتعاركتْ, ففتحتُ الكمبيوتر الذي أمامي على المكتب, لأكتب شيئاً عنه , ولكن ماذا سأكتب ..؟!! …………
ووجدتني حائراً ماذا أكتب, وماذا أقول عن هذا الانسان الشريف النبيل, وبماذا أرثيه ..؟!.. وسألت نفسي: هل أرثيه بقصيدة شعر, فهممتُ ولكني تراجعتُ لأنه أعظم من كل قصائد الدنيا فليس هناك قصيدة توفيه حقه حتى ولو كانتْ مُعلَّقة من المُعلَّقات,..! .. وعُدتُ لنفس السؤال ونفس الحيرة .. بماذا أرثيه أو ماذا أكتب عنه..؟.. وماذا أقول في حقه ..؟.. هل أكتب عنه قصة جميلة.. فهممتُ ولكن تراجعتُ أيضاً فحياة هذا الرجل أكبر من أن تختزل في قصة , ولا يمكن لقصة مهما كان كاتبها أن تفيه حقه, وعدتُ لنفس السؤال ونفس الحيرة مرة أخرى ..؟ ماذا أكتب ..؟ وماذا أقول ..؟….
” كان يستقبلنا في مكتبه بقصر ثقافة سوهاج , وكان يفرِّغ نفسه من أجلنا, يفتح قلبه ليستمع لنا, ويبذل لنا النصيحة, ويقوم بتذليل العقبات والصعوبات التي تواجهنا على الساحة الأدبية والحركة الثقافية في “سوهاج ” العامرة وفي مصر الحبيبة .. تلك شهادتي فيك للتاريخ ولكل الأجيال القادمة من بعدنا, ليعرفوا قدرك, وليقفوا على إنجازاتك, وعطاءاتك التي لا تنضب …
أطرقتُ قليلاً للحظات سهمت فيها وسرحت بعقلي, وذهبت بعيداً إلى حيث هناك سنوات كثيرة مرت زهاء ربع قرنٍ من الزمان وأنا أعرفه, وتكالبت عليَّ الذكريات الجميلة معه وتداعت وتكاثرت, فذرفت دمعة من عيني كانت محبوسة ولا أدري إن كانت شوقاً إليه أم حزناً عليه أم الاثنين معاً فقد كان من أنبل الناس وأشرف الناس وأطيب الناس, نعم الصاحب كان صاحب صاحبه , لدرجة أني كنت أتصل به وأفضفض له بكل همومي ومشاكي الأدبية فكنتُ أُلاقي عنده الصدر الرحب والأدب الجم في الحوار والأخلاق الرفيعة التي قلَّ أن توجد في هذا الزمان …. حنانيك يا الله …..
إذاً فليكن مقال عنك يا صديقي العزيز, ولكن هل هناك مقال يمكن أن يصف أو يسلط الضوء على بعض جوانب حياتك المشعة بالدفء والعطاء .. وشرعتُ أكتب , وأخط بقلمي ..
” اليوم كلفتُ بهذا التشريف, لأكتب عنك يا صديقي العزيز, ولا أدري ماذا أقول لك , ولكن سأكتب عنك وهذا شرف كبير لي وعلى قدر ما أسعدني هذا على قدر ما أحزنني في نفس الوقت أيضاًً لأني ما كنتُ أتمنى أن أكتب عنكَ يا صديقي رثاءً بل كنتُ أتمنى أن أكتب عنك مديحاً وفخراً وثناءً , فأنت انسان بمعنى الكلمة , فقد كنتَ شعلة مضيئة, ومنارةً, وفناراً, وعلماً, وبحراً زاخراً بالعطاء وكنتَ شمعة مضيئة تنير لنا الطريق وشمساً مليئة بالدفء وبالعطاء كالنهر الزاخر, ماذا أقول عنك يا صديقي, وما عساها تجدي كلماتي المتواضعة وكل كلمات الشكر والعرفان لن توفيك حقك وقدرك, عزاي الوحيد وحسبي أني أقول فيك شهادتي للتاريخ ولكل الأجيال القادمة من بعد , فقد كنتَ .. وكنتَ .. وكنتَ … ” …..
طلبتُ من أم الأولاد بأن تُسكتهم, أو تأخذهم إلى مكانٍ آخر بعيدٍ عني , وتتركني وشأني ,
وجلستُ وحدي أُفكر , وأفكر , وأنا في حيرة من أمري, وأقول لنفسي , ماذا أكتب عنك يا صديقي العزيز,..؟.. وماذا أقول فيك يا أستاذي الفاضل ..؟,.. فأنا ما كنتً أتصور ولا أتخيل يوماً من الأيام بأنِّي سأكتبُ عنك بعد رحيلك, وما كنتُ أتخيل أو أتصور يوماً بأنِّي سأكتبُ فيك رثاءً أو تأبيناً في يوم ذكراك , ولكن هي إرادة الله ……..
أتذكر أول عهدي به .. كان يوماً لا أنساه , لن أنسى ذلك اليوم البعيد القريب في ذهني حينما قابلته , وكنتُ أنا من رواد بيت ثقافة “طهطا” وكان مغلقاً علينا بل يكاد يُحرم علينا الذهاب أو الإياب إلى أي مكان آخر غيره, وكان هو حينها مديراً عاماً للحركة الأدبية والثقافية في قصر ثقافة “سوهاج” وكانت تلك المقابلة الأولى بيننا, كانتْ مقابلة رائعة للغاية, وجدته انساناً متواضعاً جداً, وطيباً جداً, وخلوقاً وكريماً لأبعد حد, لدرجة شعرتُ حينها بأنِّي أعرفه من زمنٍ بعيد وهو أيضاً يعرفني , تبادلنا أرقام التليفونات, تحدثنا معاً, وضحكنا, وتقابلنا, وكنتُ أترددُ عليه من حينٍ لآخر كلما سنحتْ لي الفرصة للذهاب إلى هناك, وكنتُ من حين لآخر أذهبُ إلى هناك حيث القصر الكبير الأم بيت ثقافة “سوهاج ” …..
قمتُ من مقامي أضئتُ المصباح وأشعلتُ ذاكرتي مع سيجارتي واستدعيتُ ذكرياتي الجميلة معه وكأنِّي به أنظُر إليه وينظر إلي وهو يبتسم في وجهي بابتسامته المعهودة الجميلة, ….
أتذكر أيضاً يوم جئته وقصصت عليه قصتي وحكايتي , وقلت له :
ــ قد أرسلتُ مع صديق لي كتابان لأخذ بهما العضوية المركزية ..؟!..
فقام على الفور وفتحَ الدولاب فوجدهما لم يتحركا من مكانهما ولم يزالا مكانهما يعلوهما التراب فوعدني بأنه سيهتم للأمر بنفسه وبأنه سيرسلهما إلى لجنة التحكيم والتقييم وقد كان,
وكان السبب في حصولي على العضوية المركزية, وكانت سعادتي لا توصف حينها ….
ثم توطَّأت صداقتنا وقويت بعد ذلك, وأخذ رقمي وكان دائماً الاتصال بي وبغيري من الأدباء والشعراء الذين كان يظنُ بأنَّهم مظلومين ولم يأخذوا حقهم ومكانتهم كما ينبغي, فكان يرسل لهم الندوات تلو الندوات بل ينبه على رؤساء الأندية والقائمين علي ذلك ويُنَوَّه بأن ينتبهوا لنا وينظروا إلينا بعين الاهتمام والرعاية والدعم ,…..
وأخيراً هداني تفكيري إلى خطابٍ, رسالة, نعم لتكن رسالة مني إذاً إليك يا أستاذي الفاضل,
اليك يا صديقي العزيز الحبيب // مصطفى بك الحمامصى // …
نعم هي رسالة لك يا صديقي العزيز, أكتبها بدموع عيني لأقول لك فيها : ..
بعد التحية والسلام والأشواق والحنين أكتب إليك يا صديقي الحبيب هذه الرسالة لأقول لك :
” طبتَ حياً وميتاً يا صديقي العزيز ” وإن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا على فراقك يا حبيبي لمحزونون ” ونحسبك والله حسيبك ولا نذكِّيك على الله, كنت على خير, وكنتَ من عباد الله المخلصين المؤمنين الصالحين وشهادة حق للتاريخ وللأجيال القادمة كنت رجلاً في زمنٍ عَزَّ فيه الرجال , ما زلتَ على البال وما زلتَ في القلب, فقد كنتَ لنا وما زلتَ مثالاً يُحتذى في النبل والشهامة والكرم والتفاني في العمل منصف لا تُحابي ولا تُجامل أحداً, سيفاً في الحق الكل عندك سواسية كأسنان المشط تحمل صفات الأنبياء والمرسلين وأخلاقهم صوَّاماً قوَّاماً محباً لكل الناس كدت يا صديقي تكون نبياً لفرط نبلك وشهامتك وكرمك وعظيم أخلاقك وكنتَ نعم الأخ ونعم الصديق وقد صدق فيك قول الشاعر” ألف بواحدٍ وواحدٍ بألف إن أمرٍٍ عنى” فأنت الحاضر في قلوبنا دائماً وأنت ما زلت موجوداً بيننا وحياً في قلوبنا وفي مجالسنا بذكراك العطرة, ولم ولن ننساك أبداً ما حيينا ….
وتمر الأيام ويأتينا خبر مرضك وانتقالك إلى المشفى فأردتُ أن أزورك ولكن علمتُ بأنك ممنوع من الزيارة فدعوتُ لك الله كثيراً بأن يشفيك لكن كانت تلك هي إرادة الله ……… ثم جاءنا خبر وفاتك الذي فزعتُ له وأظلمتْ الدنيا في وجهي وبكيتُ عليك كثيراً ونعيتك ودعوت الله أن يرحمك ولم أستطع الذهاب خلفك لكي أودعك الوداع الأخير وأُشيعك إلى مسواك الأخير لظروف الوباء المنتشر في العالم ..
فنم يا صديقي العزيز وارقد واسترح في جنة الخلد في مقعد صدق عند مليك مقتدر في الفردوس الأعلى , تظللك سحائبُ الرَّحَمات إن شاء الله تعالى, فأنت الخلوق, وأنت.. وأنت
وإلى أن نلقاك هناك في جنة الخلد يا صديقي … المخلص ………. على حزين ………
**********************
تمت مساء الاثنين 10 / 1 / 2022
على السيد محمد حزين ـ
سوهاج ــ مصر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى