قصة

وشمٌ

المنجي حسين بنخليفة

محل صغير، ازدحمت جدرانه بصور تفاوتت أحجامها وألوانها، صور على أجساد هُتِك سترها، تثيرك بزخرفاتها وجمالها، زهور وأطيار وعيون اغترفت من بحيرة السحر جمالا…وصور تبعث في قلبك رهبة، تنين وخناجر وقلوب تشظت…
دخلت، خطواتي لم تتبيّن لها موطنا في زحمة ضيق المكان، طاولة تكدّست فوقها إبر وألوان وأوراق وصور غريبة، كرسيان، سرير بلا وسادة، شيخ التهمته سنوات الستين، تزخرفتْ رقبته، زنداه النحيفتان جعلهما كتابا مفتوحا لسرّه المكنون، فلا تكاد تفكّ تداخل الخطوط والألوان إلاّ إذا أمعنت فيهما النظر، لحيته تنافر شعرها، وما تبقّى من شعر الرأس أطاله واعتقله من الخلف بخيط أسود.
بسطتُ له زندي، لعلّي أجعله مسلّة أخلّد عليها نقشا يحمل من الروح جرحا، ومن القلب حطام عشق، ومن العقل ذكريات أبت أن تنمحي.
قبل أن أخبره عن وشم يحمل ثقل ما أحمله تأتأ لساني، والجبين تفصّد عرقا رغم النسيمة المتسلّلة من الباب الموارب. انحنى يمسح زندي من عرق أو غبار كي لا يفسد عليه عمله، قال لي:
ـ يا بني، الجرح يندمل والوشم يبقى، النفس تهدأ والنقش يُوقد ما انطفأ، والحبيب من بعد طول النأي يعود فتفضحك الحروف والرسوم.
قلت له: كنت أراني إذا ما سبقتُ ظلّي إليها أراها إليّ تسبقني في الخطى، كنت إذا ما اكتويت بنار حنيني أجدها احترقت بنار الهوى، كنّا إذا ما لبسنا الصمت رداء تناجى قلبينا بأجمل قصائد شعر، إذا ما تلامست أناملنا ارتعشت كالفراشات تموت من فرط عشقها للنور.
لكنّني من بعد غربة ما اخترت سنواتها، وما هفّت الروح للاغتراب، لكنّها هي الحياة لها قانونها، وإن انتفضنا ضدّها، وهربنا من حكمها، تجدنا من بعد لأي عبيدا لسلطانها.
لكن حبيبتي تغيّرت، ثقلت خطانا للّقاء، ماعاد صوتها له ارتعاشات الحنين، ماعاد عطرها ينعشني، يحملني لشواطئ بعيدة من الأمنيات، ماعادت عيناها مينائي من بعد طول الغياب.
نظر إليّ من خلف نظّاراته الدائرية الصغيرة، المرتكزة فوق أرنبة أنفه، رمى من يده إبرة الوخز، أقام اعوجاج انحناءته، مسح يديه ممّا التصق بهما من حبر، مرّر كفّه فوق لحيته البيضاء الخفيفة، اخترقتني نظراته كسهم طائش، هتكت سرّا استوطن باطن الروح، بعثرت وريقات كتبتها بدون مداد، لا يقرؤها إلاّ من اكتوى بنار الهوى.
ارتعش زندي المحاصر بين كفيه، قال: اسمع مني يا بُني قول إمام العاشقين الرومي: “العشق هو تلك الشعلة التي اشتعلت أحرقت كلّ شيء ما عدا المعشوق، وأنت بسبب شوكة واحدة تفرّ من العشق.”
أراك أنت تغيّرت من بعد غياب السنين، أتظنها تتشكّل على هواك، أكنت تعشق صنما، أم بشرا يتأثر مثلك بقانون الحياة، فالعشق إن لم يكن مثل أجسادنا يلازمنا، يلاصقنا طول الحياة، بصحّة ومرض، بخمول ونشاط، براحة وتعب فهو مجرّد وَهْمُ عشق.
ابتسمتْ، فضحكتُ حين مسكت ابنتنا الصغير زندي تتهجى حروفا تبعثرت داخل قلب: هذا اسم أمي. هذا اسم أمي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى