أولا: النص.
بعينين مجهدتين يائستين رحتُ أتطلعُ لجدران تلك الزنزانةِ الضيقةِ الكئيبةِ التي أقبعُ في أحدِ أركانِها متخذاً وضعية القرفصاء .. برودةٌ رهيبةٌ تتسللُ من كعبِ قدميَّ الحافيتين لتسري في جسدي كلِّه لأزداد انكماشاً على نفسي، وصفيرُ رياحِ تلك المنطقةِ الصحراوية الكائن بها ذلك السجن يُدوي في أذني، أرفعُ ياقة البذلة الحمراء التي أرتديها؛ علّها تقيني بعضاً من تلك البرودةِ القاتلة ..
جسدي يتداخلُ بعضُه في بعضٍ، وأنا أحاولُ أن أغمضَ عينيَّ لأحصلَ على قدرٍ ضئيلٍ من النومِ أو لأتناسى تلك البرودةَ التي تهاجمُ جسدي في ضراوة، وعواءٌ يشوبه أنينٌ لذلك الذئب الذي تعودتُ سماعه في الأيامِ الأخيرةِ يصكُ آذاني وكأنه يشاركني آلامي ووحدتي، أزدادُ انكماشاً على نفسي أكثرَ وأكثرَ في اللحظة التي تتراقصُ فيها أمامَ عينيَّ صورةٌ لأناسٍ من أهلي وأقاربي وقد اتشحوا بالسوادِ أمامَ منزلنا عقبَ عودتي من المدرسةِ في مشهدٍ كانَ جديداً وغريباً على طفلٍ لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ولم أدرِ إلا وأنا ألقي بحقيبتي أرضاً وعيناي على حجرة والدي بالطابق الثاني التي كانت تعجُّ ببعضٍ من أهل القرية، صعدتُ فرأيتُهم وقد انتهوا من غُسله وتكفينه، صرختُ بلا وعي وأنا أدفعُهم بعيداً ليفسحوا لي الطريق، وراحت كفي الصغيرة تتحسسُ جسدَ والدي داخلَ الكفن وتهزُّه في شدةٍ وكأنَّ بمقدور هاتين الكفتين الضعيفتين أن تعيده للحياةِ من جديد!
ومع دوي عواء الذئبِ للمرةِ الثانية أرى أمي وهي تدخل علىَّ حجرتي وأنا أذاكرُ ليلا؛ لتخبرني بعد مقدمةٍ قصيرةٍ عن عزمها على الزواج، وتأكيدها بأننا – أنا وهي – في حاجةٍ لمَن يرعانا ويرعى أملاكنا البسيطة التي تركها والدي لنا، والتي لم تكن سوى بيتٍ صغيرٍ ومن خلفه قطعةٌ من الأرضِ الزراعيةِ لا تتعدى الفدانين ..
اختنقت عيناي بالدموع، وأنا أنظرُ إليها، ولم أعدْ أسمعُ ما تقول .. في حين كانت أعماقي تزأر:
– كيف استطاعت أمي أن تقولَ هذا الكلام ؟
كيف ستسمح لرجلٍ آخرَ أن يحتلَّ مكانَ أبي الذي لم يمر على وفاته سوى أربعةِ أعوامٍ فقط ؟
ثم ما حاجتها إلي الزواج ؟
وها أنا قد تخطيت السادسة عشرة، وسأكون رجلها، ولن أجعلها تحتاج لأيِّ مخلوق ؟ و ..
– ما رأيكَ يا ولدي في جارنا جلال؟ زوجته توفيت منذُ أعوامٍ ولم يتزوج، كما إنه لا ينجبُ و ..
ينبعثُ في تلك اللحظة عواءُ الذئبِ للمرةِ الثالثة، ولكنه أقل قوة وكأنه أقرَّ بقوة الصحراء وقسوتها لأرى أمامي عواء عم جلال وهو يصرخ ويهدد ويتوعد الجميع، وقد تحوَّل لذئب شرس بعد أن نجح في إقناع أمي بعمل توكيل له بكل ما تركه لي والدي، وخاصة بعد أن وهبه الله طفلا جميلا في السادسة من عمره الآن، وكان قد أوشك أن يفقد الأمل في أن يصير أباً في يومٍ من الأيام ..
عواءٌ رابعٌ أكثر خفوتاً يطلقه الذئب، وأنا أجلسُ فوقَ مقعدٍ منزوٍ بردهةِ البيتِ أتأملُ حظي التعس، وقد رفض جلال أن يمنحني مالا احتجته لشراء بعض الكتبِ الجامعية، وبينما رحتُ أقلبُ نظري بينه وهو يرتشفُ قهوته في شرفةِ البيتِ المُطلة على المزارع، وبين أمي التي اتخذت لنفسها ركناً آخرَ بلا حولٍ لها ولا قوة، وبداخلي بركانٌ من السُخط والغضبِ يوشك أن يطيحَ بالجميع إذا بي أفاجأ بجلال يتركُ قهوته، ويهرعُ نحوَ صغيره الذي عاد لتوِّه من مدرسته حزيناً، ويرفعه بين ذراعيه هاتفاً به في حنانٍ:
– لِمَ كلُّ هذا الحزن يا صغيري ؟ أخبرني ما بكَ ؟ لو أردتَ لبنَ العصفورِ لأتيتكَ به .
رمقتُهما في حقدٍ وأنا أغادر البيت، وبركانُ غضبي قد قاربَ فوهته..
يريدُ أن يشتري لابنه لبنَ العصفور!
وهل للعصفور لبن ؟!
لا يهم ..
المهم أنَّه سيشتريه بمالي أنا ..
مالي الذي حرمني منه ..
بصعوبةٍ بالغةٍ تلتقط أذني العواء الخامس للذئب، وكأنَّه قرر أن يرضخَ ويُسلمَ كلَّ حصونه للطبيعة التي لا ينتصرُ عليها أحد، أو كأنَّه رفع لافتةً مضمونُها أنَّه لا أمل، وصراخ الأمِ يُدوي في أرجاء البلدة التي انطلق رجالها وشبابها في مقدمتهم جلال ينبشون كلَّ ركنٍ على أضواء المشاعل التي راحت تتراقص بأيدهم، والقلق يعصفُ بأحشائهم بحثاً عن الطفل الذي لم يُكمل عامه السابع، صراخ الأم ما زال يتردد في جنباتِ القريةِ ويُدوي في أرجائها، ومرت تلك الليلة الطويلة، وأعقبها نهار، والبحث ما زال مستمرا بلا كلل، وكاد النهار ينقضي هو الآخر حتى جاء بعضٌ من شبابِ القرية بالخبر اليقين، لقد عثروا على جثة الطفل في بئر ساقيةٍ بأطرافِ البلدة ..
وأمام المُحقق لم أردد سوى جملةٍ واحدةٍ لا علاقة لها بالأسئلة التي انهالت فوقَ رأسي:
– يريدُ أن يشتري له لبنَ العصفور !
صريرٌ مزعجٌ صك آذاني حين تحرَّك باب الزنزانةـ، وتضاعفت البرودة في جسدي حتى تحولت لصقيعٍ تيبست له أطرافي، وهم يجرونني خلفهم جراً حيثُ المشهد الأخير ..
حبلُ المشنقةِ يتأرجحُ أمام عينيَّ الذاهلتين بينما كان أحدُهم يوجه إلىَّ سؤالاً :
– ماذا تريدُ كأمنيةٍ أخيرةٍ قبلَ تنفيذِ الحُكم ؟
امتلأ حلقي بغصةِ ألمٍ ومرارةٍ، وأنا أردد :
– أريد لبن العصفور !
_____________
ثانيًا: القراءة.
الله … سرد على غاية من الجودة و الرّقة و العذوبة و الجماليّة بالرّغم من المرارة الذي بدأ به الاستهلال الذي لم يكشف سرّ العنوان … الوصف اعتمد طريقة التّقديم، و التّأخير، على حسب أهميّة الخبر و قد أضفى للنصّ حراكا مشهديّا، سينمائيا، جعل من زوم الكامرا تستجيب لمقتضياته بتقريبها تارة أو بإلإبتعاد تارة أخرى .. النصّ من البداية إلى النّهاية يتعالق و يغازل كتابات دويستفسكي خاصة بالقبو، و برسالته الأخيرة إلى أخيه قبل إعدامه .. و ليلى و الذّئب و غيرها … فالوصف ارتقى إلى درجة الكتابات العالميّة .. و أيضا العواء و التبئير، و البحث في طبقات ذات السّارد الدّفينة بالحفر عن بحث لشبيه له، في الذّاكرة التي قاربت بين العواء، و صراخ الأمّ، عند فقد الزّوج، و الابن، و العويل، و كذالك صراخ زوج الأب، و صورته التي تشابه في ذهنه الذّئب أيضا، كذالك ردّة فعل السّارد و انزواءه بردهة البيت و القبو في السّجن . كل هذا زاد في قيمة النّص لاعتنائه بالتّحليل النّفسي و التّأمّل، بدرجة الوعي، بأزمة الإنسان عموما، هنا و هناك، في الآن و المستقبل و معاناة الذّوات في مراحل الطّفولة، و المراهقة، و ما ينجم عنها عندما يطرأ عليها أيّ خلل في أيّ مرحلة، وما ينجرّ عنها من ردّات فعل انفعاليّة، غير مسؤولة، قد تصل إلى اقتراف جريمة، من دون وعي، و التي قد تكلّف الفرد، حياته بالإعدام كقضيّة الحال، فتكون الصّدمة درسا قاسيا للأفراد تلقّنه الطّبيعة للكلّ، لأنّ الإدراك جاء نتيجة متأخرة بعد فوات الأوان .. نرى النّصّ استدعى في الوعي، التّحليل النّفسي، الفرويدي، و أساطير العقد النّفسيّة، التي اعتمدها هذا الأخير …. عنصر التّشويق و الحبكة و الحكائيّة على امتداد المتن، و كذلك الصّدمة. تلك الدّهشة في الخاتمة كانت مدهشة، صادمة بل و أيضا كانت مشحونة برسالة قويّة للإنسانيّة جمعاء، من أجل الإعتناء بالطّفولة و المراهقين و بالأخلاق و بالقيم، و هي إشارة من أجل الإنتباه إلى رهافة حسّهم و مقدرتهم على ترجمتها طاقة سلبيّة، و فعلا لا يمكن إصلاحه بعد إنجازه … إضافة إلى تماسك الحكي والحكائيّة و بساطة الحرف وتناغمه الذي شدّ من انتباه المتلقّي من العنوان إلى النّهاية نصّ حداثي متميّز و ممتع …
أضيف أيضا حسن توظيف الخطاب الذي عمق الفكرة ودعم المنولوج …. نص استوفى كلّ شروط القصّة القصيرة …
أريد لبن العصفور، اعتمد طريقة الفلاش باك، و تقطيع مشاهد سينمائية جميلة. يتعالق النّصّ مع رسالة فيودور دوستويفسكي بعد الحكم عليه بالإعدام، كتابة حداثيّة تعالج قضية معاناة إنسانيّة…
