دراسات و مقالات

نص داخل السّياق الحدثي” ظلّ حمار و طبيب خارج الزّمان

سهيلة بن حسين حرم حماد

قراءة : بعنوان” نص داخل السّياق الحدثي” ظلّ حمار و طبيب خارج الزّمان …” ”

في القصّة القصيرة خطأ الحمار../ للدكتور محمد منصور

=============
========

نصّ داخل السّياق الحدثي يستحقّ الإحتفاء، أحسن القاصّ تأثيثه.كتابة حصيفة و رصينة و ذات إيقاع مختلف و مميّز بها روح و نفس تشعرك بقشعريرة، مقنعة ، محكمة البناء و المنطق ، سارد نشيط ماسك بزمام زوم كميرواته، إعتنى بالتّفاصيل، و الجزئيّات، بحذر، بحيث خدم الفكرة و وحدة الحدث دون أن يشوّه القصّ، و الحكائيّة و لم يسقط بذلك في الملل بواسطة التّكثيف و التّشظّي . إلى جانب الصّراع الواضح و التّشويق، و الحبكة ، زائد اللّغة و حسن اختيار مفردات أضفت على السّرد بهاءً،وكسته حلّة عيد، تليق بمقامه فزادت من درجة الإتقان…
أمّا الحمار فقد أخذني إلى ظلّه في” محاكمة حول ظلّ حمار ” “لفريدريتش دورنمات ” مع فارق الموضوع و الزّمكان طبعا … و لكن قصدت بالظلّ، انعكاس صورة الحمار على أشباهه، من حيث اقتراف الخطأ، الذي قد لا يغتفر….لما في ذلك من رمزيّة ..للأحمرة السّيّارة .. التي حملت أوزار أخطاء العباد منذ القدم …في حين أنّ العلم أثبت، أنّ الحمار من أذكى الحيوانات، بدليل أنّها استخدمت في الحروبات، و لعلّ أحدثها استخداما في حرب إفغانستان، و كذلك استعملت في التّهريب، لذلك سلّطت المخابر الضّوء على دراسة البرسيم الأكلة المفضلّة للحمير …..

العتبات :

الاستهلال : جاء موقعا بإيقاع غنائي: لم ….و لا ….ولا….و لا…و لا …، لم الجازمة، و لا النّافية المتكرّرة، التي أحدثت إيقاعا، و المتّصلة بأسماء، التي جاءت في سياق خبري، زادت في نسبة التّوتير، و التّشويق إلى معرفة الحدث، و ما حدث فعلا . سبق الحدث، التّفضيّة عرفنا أنّ الزّمن كان ليلا حالكا، حيث حلّ الظّلام في غياب القمر كما عرفنا أنّ المكان أرض موحلة على إثر أمطار …
الصّوت المتكلّم “أنا ” ؟

” لم يكن ما حدث بسبب الأرض الموحلة، و لا بسبب الظّلام الحالك، و لا الجهل بجغرافيّة الطّريق، و لا الظلام الدّامس الذي لفّ المكان حتى كان من الصّعب عليّ أن أرى راحة يدي، غياب القمر في تلك اللّيلة زاد من تعقيد المسألة.”
خبر أوّلي تلاه خبر اليقين :”الأمر كلّه لايعدو أن يكون خطأ الحمار و ارتباكه عند محاولة حفظ التّوازن فوق ظهره الأعجف..”

هذا الخبر، يحمل نبأين، الأوّل، عرفناه بالعنوان، أي علمناه تقريبا، و لكن ما وتّرنا، هو معرفة الحدث، أي معرفة سرّ القصّ، وأصل الحدث، أنّ” الأنا” السّارد وقع من على ظهر الحمار … بقي من هو هذا “الأنا” ؟ و لماذا وجد هناك ؟ في ذاك التّوقيت بالذّات؟ … التّوتّر نتيجة التّشويق خدمت الحبكة .. أمّا التّوازن فيحمل في طيّاته أبعادا و مدلولات، مشحونة بفيض معان، قد ترمز إلى عدم توازن الزّمن الحاضر، مع الزمن الواقع، المعيش، في مكان وجد خارج الزّمان، يفصله عن الأمكنة الواقعة في حاضر الزّمن سوى بعض الكلومترات.. و بعض السّويعات … زد على ذلك أنّ الطّبيب هنا ، حاصل على شهادة لا تقل قيمة عن زميله هناك،! …
فما يجبره على قبول العيش في قبو الزّمن موصول بالهناك بواسطة ترانزيستور؟…

“الضاكتووور” يبدو أنّه وجد خارج الزّمان، ومدار حتي Abulcasis وأقصد طبعا الجرّاح الأندلسي أبو القاسم الزّهراوي المتوفي سنة 1013 ميلادي، الذي يرجع له الفضل في العديد من الاكتشافات الطبّية و كذلك الآلات الجراحيّة التي لا زالت تستعمل إلى اليوم …

القفلة أو الخاتمة:

“ظهر شبح محمد البليهي واقفاً وسط الظّلام أمام باب مسكني ..
هتف ليشعرني بوجوده و يقظته ..
جيت بالسلامة ياضاكتووو ..
لم أرد على سؤاله السّاذج ودلفت إلى مسكني دون أن أنبس لأجده غارقاً في البرد والظلام .. كان الكلوب قد انطفأ.”

إذا القفلة أتتنا بالجواب على أسئلتنا فالأنا طبيب بمنطقة نائية ومن خلال اللّهجة العامّية لكلمة :”ياضاكتووور” قد يتبين للمصريين ربّما الجهة أو الرّيف المعني، أما نحن فيكفينا أنّنا عرفنا من خلال الحمار و الوحل أنّ المنطقة ريفية، وربما أرض زراعيّة غير موصولة بالكهرباء و غيره …

الموضوع : طبيب ناداه الواجب لنجدة إحدى المرضى في ليلة قرّ، ركب حمارا لينتقل إلى بيت المريض … فسقط في أثناء العودة ….

الرؤيا :معاناة طبيب الأرياف متعدّد الوظائف، والاختصاصات اضطرارا لا اختيارا، فهو الإداري والطبيب و الصّيدلي، و المؤطّر، و الكهربائي و ربّما السّباك …
صراع نفسيّ، بين تلبية نداء الواجب أو تعريض نفسه للخطر في ليلة قرّ ..
ساهم شبه الحوار المنقول عبر المنولوج ” الأنا” صوت السّارد في خدمة تقنية الإيجاز و الحذف بالإيحاء، في حين أنّه أعطى بسطة عن كيفيّة اشتغال” الكلوب” وعن العطب الشّيء الذي لا تتحمّله القصّة، و مع ذلك نجح في شدّ المتلقي لمعرفة تقنيّة ما كان يعرفها العامّة من النّاس، سكّان المدن وعن الحياة في دلتا البحريّة .

“أنهيت مراجعة الصّيدليّة وتقفيل حساباتها على ضوء الشّموع فلم يكن من المناسب لليلة شديدة الأمطار والعواصف أن أنقل “الكلوب” من السّكن إلى الصّيدليّة فاكتفيت بضوء شمعتين وجلست في جوّ الصّيدليّة المشبع بالبلل حتى أنهيت كل حسابات المنصرف و مراجعته على روشتات الصّباح بالوحدة الرّيفية التي كنت مديرها و طبيبها و الصيدلي و الممرّض أيضاً إذا لزم الأمر.. فالوحدة الرّيفية التي تقع في بلدة بعيدة في دلتا الوجه البحري لم تكن تحتمل وجود أكثر من طبيب واحد، أمّا الصّيدليّة فقد كانت ضمن مهامّي الوظيفية أيضاً.”

“في تلك اللّيلة كنت مشغولاً بمعالجة “الكلوب” فالقرية لم يكن بها كهرباء و لا مياه نقيّة تجري في أنابيب و صنابير.. كلّ ما يربطني بالحضارة هو راديو ترانزستور صغير هو رفيقي الدّائم في ليالي الشّتاء”

الأسلوب: سلس رشيق و أنيق به عذوبة حكي في لغة بسيطة لا تحتمل التّعقيد بليغ و فصيح من السّهل الذي لا يجيده إلّا من توفّرت لديه كريزما الحكي والتّواصل ..

المشهديّة ناطقة تكاد تكون صورا متحركة يمتلك السّارد خيوطها بيديه، يحرّكها كيفما يشاء بشكل باهر ،

حقق الإدهاش…فكان رائعا ….

سهيلة بن حسين حرم حماد

سوسة في 16/02/2020

==============
========

خطأ الحمار.. قصة قصيرة

(1)
لم يكن ماحدث بسبب الأرض الموحلة، ولا بسبب الظلام الحالك، ولا الجهل بجغرافية الطريق، ولاالظلام الدامس الذي لف المكان حتى كان من الصعب عليّ أن أرى راحة يدي، غياب القمر في تلك الليلة زاد من تعقيد المسألة.
الأمر كله لايعدو أن يكون خطأ الحمار وارتباكه عند محاولة حفظ التوازن فوق ظهره الأعجف..
كانت ليلة باردة شديدة المطر، وكانت حباته الكبيرة المتلاحقة تعزف سيمفونية نشاز على صاج السطح عند ارتطامها به.
أنهيت مراجعة الصيدلية وتقفيل حساباتها على ضوء الشموع فلم يكن من المناسب لليلة شديدة الأمطار والعواصف أن أنقل “الكلوب” من السكن إلى الصيدلية فاكتفيت بضوء شمعتين وجلست في جو الصيدلية المشبع بالبلل حتى أنهيت كل حسابات المنصرف ومراجعته على روشتات الصباح بالوحدة الريفية التي كنت مديرها وطبيبها والصيدلي والممرض أيضاً إذا لزم الأمر.. فالوحدة الريفية التي تقع في بلدة بعيدة في دلتا الوجه البحري لم تكن تحتمل وجود أكثر من طبيب واحد، أما الصيدلية فقد كانت ضمن مهامي الوظيفية أيضاً.

(2)
في تلك الليلة كنت مشغولاً بمعالجة “الكلوب” فالقرية لم يكن بها كهرباء ولامياه نقية تجري في أنابيب وصنابير.. كل مايربطني بالحضارة هو راديو ترانزستور صغير هو رفيقي الدائم في ليالي الشتاء القاسية. الكلوب لمن لايعلم هو جهاز للإضاءة يعمل بالكيروسين ويصدر إضاءة بيضاء ساطعة كضوء لمبات الفلورسنت وله مكبس جانبي لكبس الهواء بخزان الكيروسين حين تخف الإضاءة كي يعود الضوء المبهر من جديد.. لكن من الضروري أن تكون به “رتينة” غير مثقوبة، الرتينة هي شبكة حريرية معلقة بمنتصف الكلوب تصدر الضوء المبهر عند احتراقها لكنها تظل متماسكة وهشة كشرط لإصدار الضوء وأي خبطة للكلوب أو ارتجاج قد يعرضها للسقوط فيتحول المكان إلى ظلام دامس ولابد من تغيير الرتينة بأخرى جديدة في هذه الحالة.
الكلوب يشيع في الجو دفئاً محبباً ويصدر فحيحاً متواصلاً يخف تدريجياً كلما تناقص الهواء بخزان الكيروسين فيحتاج بعض كبسات قوية بالمكبس حتى يستعيد قوته ونشاطه ونوره الساطع وكانت هذه مشكلتي الكبرى في تلك الليلة الممطرة الباردة، فقد اكتشفت أن ضوء الكلوب يخفت بسرعة وأنه يحتاج لكبس الهواء أكثر من اللازم، كان ثمة ثقب غير منظور بخزان الكيروسين فقد وجدت المنضدة التي يستقر عليها بجانب سريري ملوثة ببقعة كبيرة من الكيروسين فأضيفت رائحة الكيروسين إلى مايشعه الكلوب من ضوء ودفء وقد استلزم ذلك أن انقله بحرص شديد إلى الأرض حتى لاتهتز الرتينة فتقع، ثم أقعي على ركبتي إلى جانبه لأكبس الهواء فيه كلما خفت ضوؤه وقد خطر ببالي أن أول ماسوف أعمله في الصباح هو أن أكلف “بشير” كاتب الوحدة بأن يأخذه إلى السمكري بالمدينة ليسد الثقب الذي يهدر الكيروسين والرتاين معاً وأن يعود إلى الوحدة قبل موعد الانصراف وإلاقضيت ليلتي التالية وسط الظلام الدامس حين يحل المساء.

(3)
ورغم حرصي الشديد في التعامل مع الكلوب برفق فقد اضطررت في تلك الليلة أن أغير الرتينة التالفة مرتين مع مايتطلبه ذلك من انتظار حتى يبرد الكلوب تماماً لأتمكن من فك غرفته الزجاجية وأن أتحسس مكان الرتينة على ضوء شمعة لأتمكن من ربط واحدة جديدة، كانت المشكلة إذ ذاك هي خيانة المكبس الذي يجعل قبضتي تنزلق عليه فتصطدم في جسد الكلوب بقوة، حتى المكبس ذاته كان يحتاج إلى ضبط ما حتى لايخون قبضتي.
العواصف تضرب الأبواب والنوافذ بعنف وحبات المطر مستمرة في عزف ألحانها على السقف وأنا موحول في تركيب الرتينة بحرص شديد حتى لاتسقط قبل أن تبدأ عملها وحتى الراديو الترانزستور كان قد فقد على مايبدو محطته الإذاعية فشارك في سيمفونية الإزعاج من حولي بشوشرته المتقطعة..
في تلك اللحظة سمعت طرقاً شديداً على الباب الخارجي للشقة وصوت محمد البليهي خفير الوحدة يناديني بصوته القروي المميز في إلحاح وثبات فضوء الكلوب الذي انتهيت من إعادته للتو كان يتسلل إلى الخارج من خلال الشقوق بالباب فيخبره أنني مازلت يقظاً ولو أنني كنت قد بدأت في طقوس النوم المعتادة بأن أحكمت الغطاء حول جسدي وارتداء الجوارب الصوفية الثقيلة وضبط مؤشر الراديو على أحد البرامج المملة ولم يتبق لي إلا أن يغلبني النعاس فأمد يدي من تحت الغطاء بحذر وأفك صمام الكلوب حتى ينطفئ ثم أغرق في الظلام والصمت..

(4)
يدق الباب من جديد.. ويرتفع صوت محمد البليهي الممطوط المنغم بلهجته الريفية.. ضاكتووور.
لابد مماليس منه بد، فلن يكف محمد البليهي عن الدق والنداء مهما تجاهلته..
فتحت الباب نصف فتحة ووقفت وراءه حتى لايندفع الهواء البارد إلى الداخل، كان يقف أمام الباب ومن خلفه شبح رجل متدثر بعباءة ثقيلة تلفه من رأسه حتى الأسفل لايظهر منه سوى عينيه خلف كوفية تغطي وجهه بالكامل.
همس محمد البليهي..
زيارة منزلية
أوووف.. في هذا الجو..
الرجل أمه مريضة وتتألم هكذا قال لي.
ألايمكن الانتظار حتى الصباح..
خرج الشبح الواقف خلف البليهي عن صمته وانطلق يدعو لي بالصحة وطول العمر وبمايشبه التوسل قال إن والدته تتألم وأنه أتى في هذا الجو من قرية مجاورة ليحضر لها الطبيب..
وقفت حائراً ماذا أفعل وبماذا أرد، القرية التي جاء منها على بعد نصف ساعة على الأقل في الظروف العادية وفي هذه الأجواء الموحلة قد يتطلب الانتقال إليها أكثر من ذلك الوقت، قدرت في نفسي أنه لولا أن العجوز تتألم ماخرج ابنها ساعياً إليّ في هذه الأجواء.. بدا تصميم الرجل على اصطحابي معه حين بدأ يؤكد على أنه اصطحب معه حمارين واحد لي وواحد له وأنه وضع فوق حماري برذعة مميزة وأنه لن يتركني حتى يرجعني إلى الوحدة بسلام..

(5)

)
تدخل محمد البليهي ليطمئنني بأنه يعرف هذا الرجل ويعرف أمه أيضاً وأنهم ناس طيبون وجيرانه في السكن وأنه لولا خوفه من أن يترك الوحدة بلاحراسة لأتى معي ولو ماشياً..
أمام إلحاح الرجل وشفاعة البليهي. طلبت إمهالي بعض الوقت لتغيير ملابسي، تدثرت بكل مايمكن وضعه على جسدي من ملابس، لففت الكوفية حول عنقي وكبست رأسي تحت طاقية صوفية ثقيلة، وحملت حقيبتي السمسونايت التي بها كل معدات الفحص وبعض علاجات الطوارئ، ولم أنس المظلة التي ستحميني من الأمطار التي كانت تنهمر بغزارة.. تركت الكلوب كماهو على المنضدة حتى يحتفظ بدفء المكان لحين عودتي.
من حسن الحظ أنني كنت مدرباً على ركوب الحمير وقد ساعدني محمد البليهي حتى اعتليت صهوة الحمار واحتضنت حقيبتي واتخذتها كمسند أحفظ به توازني، هكذا انطلق الموكب الصغير إلى القرية القريبة، الحمار ضئيل الحجم لكنه نشيط خفيف الحركة وقد أخذ يحث الخطى ناحية المنزل المقصود وأنا أجاهد لأحفظ توازني فوق ظهره المشكلة التي أزعجتني كانت في كيفية تثبيت المظلة المفتوحة فوق رأسي وأنا أضمها إلى الحقيبة وأحتضنهما معاً فالعاصفة كانت قوية لحد أنني كنت أعاني لأحتفظ بالمظلة قبل أن ينتزعها مني الريح.
الظلام دامس والأرض موحلة والرجل المختفي تحت عباءته يسير بحماره خلفي من باب الاحترام والتوقير دون أن ينطق بحرف والحمار يخوض في برك ومستنقعات وأنا مستسلم لمشيئته يجاهد بجسمه الأعجف في صعود مرتفع أو يندفع إلى وهدة في الطريق فأكاد أنكفئ وأتشبث بالحقيبة والمظلة لأحفظ توازني فوق ظهره فلاأميل حيث يميل.

(6)

أخيراً ظهرت وسط العتمة ذبالات ضوء كأنها الشموع تشي بوجود مساكن في الجوار.
دخل الحمار بنا في زقاق ضيق وانحرف إلى أحد البيوت وخلفنا الحمار الآخر الذي قفز من فوقه الرجل المتشح بالسواد إلى الأرض ليساعدني على الهبوط والدخول إلى البيت.
هنأني الرجل على سلامة الوصول وهو يتمتم بعبارات شكر وامتنان، حمل مصباح الكيروسين وقربه من العجوز التي بدأت في التأوه عند رؤيتنا وكأنما لتؤكد لي أن الأمر كان يستحق هذه المعاناة.. استمعت لشكواها التي كان يدعمها مرافقي بشتى صيغ المبالغة ليكسب الأمر الأهمية اللازمة، وحقنتها بمسكن قوي طمأنتها بأن سيزيل الألم حتى يحضر ابنها الدواء في الصباح من صيدلية الوحدة الصحية.
حضر كل من في الدار من رجال ونساء والتفوا حولي ممتنين عارضين أن يجهزوا العشاء أو مشروباً ساخناً فاعتذرت بتأخر الوقت وضرورة أن أعود إلى الوحدة حالاً، كنت في الواقع أود اللحاق بالكلوب الذي تركته مضاءً قبل أن يلفظ أنفاسه ويحتاج لأنفاس جديدة قد تكلفني رتينة جديدةً.. وهكذا امتدت كل الأيادي تساعدني على ركوب الحمار من جديد حتى أنني شعرت أنهم حملوني إلى ظهره حملاً وبدأنا رحلة العودة على نفس الهيئة التي أتينا بها، حماري يتقدم الموكب وخلفي الرجل المتدثر بالعباءة غير أنه هذه المرة انطلق لسانه من حين لآخر يصب الثناء عليّ ويمتدح مروءتي وكرمي..
اتشبث بالحقيبة والمظلة وأتقى العواصف والمطر وأناور بالمظلة وأهبط بها فوق رأسي حتى لايختطفها الريح.
ويناور الحمار كذلك مع أوحال الطريق وحفره وتضاريسه التي تغطيها المياه..
في منتصف الطريق بين القرية والوحدة الصحية زمجرت الرياح بقوة وداهمتنا نوبات شديدة من الرعد والبرق جفل منها الحمار وارتعد، قفز للأمام قفزة غير متوقعة فعدت سريعاً إلى الخلف في محاولة بائسة لأحفظ توازني .. لكن السيف كان قد سبق العذل ، ووجدت نفسي مطروحاً وسط بركة كبيرة من مياه الأمطار، طارت المظلة إلى حيث لاأدري ، واستقرت الحقيبة في مستنقع، وتسلل الماء المثلج إلى حذائي وسراويلي وغاص ذراعاي في أوحال وطين وصرخ مرافقي القروي ياساتر يارب.. أنت كويس ياضاكتووور.
كنت في سري ألعنه وألعن أمه والليلة السوداء التي جمعتنا معاً.. رحت بمساعدته ألملم أشيائي وأتحسس وسط البرك موقع حقيبتي والرجل يواصل في خجل بسملته وحوقلته ووقف الحمار الفار من تحتي على مقربة مني وقد تدلى رأسه وأذناه في خجل، عانيت وعانى مرافقي حتى استويت على ظهره من جديد ، لم أأبه للمظلة التي حملتها الرياح إلى ظلمات بعضها فوق بعض وتحملت الأمطار المنهمرة بغزارة فوق رأسي وقلت في نفسي لعلها تغسل ماعلق بي من أوحال .. ومضينا يلفنا الصمت والسكون لايقطع إلا نقيق الضفادع الفرحة بالأمطار والوحل حتى ظهر شبح محمد البليهي واقفاً وسط الظلام أمام باب مسكني ..
هتف ليشعرني بوجوده ويقظته ..
جيت بالسلامة ياضاكتووو ..
لم أرد على سؤاله الساذج ودلفت إلى مسكني دون أن أنبس لأجده غارقاً في البرد والظلام .. كان الكلوب قد انطفأ.

للدكتور محمد منصور

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى