دراسات و مقالات

مقدمة للمجموعة القصصية ( المبدع ذو الضفتين )مصطفى الحاج حسين

بسمة الحاج يحيى

للنخيل ظلالها ، باسقات ، شامخات تنافس

الطيور المحلقة بالسماء ، جذورها تُسقى من نبع

رقراق سلسبيل ..

تُلقي ظلالها حيثما طاب السّمر و اللقاء ..

ذلك هو الأديب الأستاذ ( مصطفى الحاج حسين )

أو …

( المبدع ذو الضّفّتين ) كما سمّاه بعض الكتاب و

النقّاد . فقد لَانَ الحرفُ بين أصابعه، فكتب الشعر

منذ نعومة أظافره ، متناولا بذلك قضايا متعدّدة ؛

فسلّط الأضواء على القضايا الإجتماعية كما اهتم

بتفاصيل الحياة العامة ببلدته و لم يستثن الشأن

السياسيي اثناء تناوله لكل ما يهم حياة الفرد ، كما

عطّر دواوينه الشعرية بأجمل القصائد التي ألهمها

أحاسيسه الصادقة ، فنكهة العشق الشرقي تفوح من

خلال رسمه للكلمات و المعاني ..

كما أبدع بكتابة القصة القصيرة ، و بهذا

المجال فقد تميّزت كتاباته بالشفافية و المصداقية

إذ استدعى شخوصا من أرض الواقع لتستمدّ

الأحاديثُ شفافيَتَها من كاتب النص نفسه الذي

عكست كتاباته الحياة المتداولة و اليومية و خاصة

تلك التي عايشها بنفسه أو عاشها منذ طفولته

القاسية وصولا إلى حيث برز في مجال الكتابة .

لذلك فقد اتسمت نصوصه بكشف صريح لهمومه

خاصة منها ما يتعلق بالدراسة الّتي حُرم منها منذ

سنواته الصغرى لمّا كان بالابتدائي ، ممّا دفع فيه

أملاً و إصراراً عظيمين لتثقيف نفسه بنفسه ،

فتعلّقت همّته بما وراء المعاهد و الجامعات من

علوم ، فنافس روّاد العلم و تفوّق عليهم و الطموح

يحذوه لطلب المزيد و دون توقف .. نهل من العلم

ما لذّ و طاب ، لم تساوره القناعة و ما أصابه الغرور

قطّ . بل كان كلما زادت معرفته زاد معها شغفه

لطلب المزيد …

و أجمل ما يؤثّث قصصه تلك الملامح الشفافة

للأحداث و السّرد السّلس للمشاهد و ما تتخلّله من

حوارات أكثر صدقا من الواقع حيث يتوغّل بأغوار

النفس ليزيدها شفافية أثناء السرد ..

الكاتب و الشاعر العصامي التكوين هو من

مواليد 1961 و من سكان حلب ، انقطع عن الدراسة

مبكراً ، و اضطرّ للعمل بميادين عدة مكنته من

الاختلاط بفئات متنوعة من الناس كما خولت له

التعرف إلى قضايا المجتمع بمختلف أصنافها ، ممّا

اكسبه معرفة و فطنة لأنواع الفساد المستفحل

بالعديد من المؤسسات الحكومية ؛ من ذلك الفساد

المالي و المحسوبية و عدم الجدية أو غياب

الإخلاص بالعمل . و هذا ما أثار غيضه و زاد من

شغفه للمطالعة أكثر للإرتقاء بنفسه و فكره عن ذي

عالم . فسعى إلى أن يحول كل هذه الملامح على

صفحات قصصه التي طوّع ، أثناء سردها ، قلمه

فانسابت كتاباته بلهجة ساخرة ، متهكمة على

الشخوص الذين كان سخيّا معهم لدرجة منحهم

أدوار البطولة ، بل و مكنهم من دور الراوي حيث

جاء السرد على ألسنتهم ، فكانت قمة السخرية إذ

يضع البطل في موقف لا يُحسد عليه فيعترف

بنفسه عمّا يجول بفكره من حقد و أنانية أو نوايا

تعفّنت بأعماقه ..

الكاتب و الأديب مصطفى الحاج حسين ،

رجل قلّما تجود به الساحة الأدبية ، فبرغم القسوة

التي غلبت على تفاصيل حياته من داخل الأسرة أو

خارجها ، فقد جعلت منه إنسانا مسالما ، يرفض

الظلم للغير و يدافع عن الفئات التي قست عليها

الظروف كما قسى عليها المجتمع ، فأوْلى هؤلاء

حيزاً لابأس به من مساحة ما نقله في كتاباته ،

فأقحم بقصصه ابطالا واقعيّين قست عليهم الحياة

و المجتمع على حد السواء .. و من هنا تأتي

مجموعته القصصية هذه لتشهد ميلاد ملحمة

أبطالها شخصيات متواجدة بكل زمان و مكان ؛ هم

الإخوة و الاقارب ، هم الأصدقاء و الزملاء بالعمل ،

هم المسؤولون و العمال بمختلف القطاعات ..

المبدع و الكاتب ذو القلم الجريء ، لم يدّخر

تفصيلة واحدة ليغوص بأعماق الأحداث، فكتب بكل

عفوية و شجاعة مميّزين .

و هذه المجموعة القصصية تحوي خمس عشرة قصة

لا يخلو أغلبها من الرّمزيّة ، فقد ترك الأديب مجالاً

للقارئ ليكمل ما بين السّطور ، فاسِحًا له مجال

التأويل بحيث لا يصعب عليه ، خلال قراءته

للأحداث ، أن يلحظ البعد الثاني لكل قضية قيْد

الدّرس ، خاصّة لما تكون البطلة امرأة أو مستضعفة

و ينهش لحمها القريب قبل البعيد ، أو لمّا يقف

الجيران مكتوفي الأيدي ، فحتما أنّ تلك الأرملة أو

الثكلى بائسة الحال لن تكون ، بمواصفاتها تلك و

الشبيهة جدا للمضطهدة و السّبيّة ، إلا رمزا لدولة

عربية استخف بها ربّ العائلة قبل ان يفسح المجال

واسعاً للأجوار كي يكملوا رسم عنفهم بجدارة

فتكتمل المأساة ..

هذه المجموعة القصصية هي نافذة للآخر ،

للقارئ ، لكل من شعر بالظلم بأي مرحلة من مراحل

حياته و خلال صيرورة البقاء من أجل الحياة ، و لم

يسعفه خياله و لا قلمه ليعبر عمّا يودّ كشفه علنًا .

فهذا الكتاب هو بمثابة صرخة عالية ، آهة شاهقة

التردد ليعود إليه صدى صوته من خلالها . هي نفحة

يتنفس عبرها القارئ ليسمع أنينه لمّا يصير الألم

لذاذة نكتبها لتُقْرَأ ، لمّا يصير الشجن وليدا نحضنه و

نطبق عليه فنحويه داخل أضلاعنا ، نلفّه كما تلف

الأم وليدها ، نلفّ أحزاننا حتى تصير جزءً منّا ، حتى

تتشابه ملامحنا به ، فنراها منعكسة بمرآة الحروف

تتكاثف و تتراصّ ، تتسع و تتمدّد ، تتوغل بأعماق

النفس ثم تسبح بفضاء الخيال ؛ لتكتشف أنك تقرأ

للأستاذ ( مصطفى الحاج حسين ) . فتعجب كيف

أمكن له مسك كل تلك التفاصيل الصغيرة و التي

ساهمت و إلى حد كبير في بناء شديد الارتفاع

استدرج خلاله كل التفاصيل ؛ ذوات ، فواعل ،

شخوص ، جميعها تحضر لتنسج كل المعاني ،

فيحضر السرد و الخطاب منسجمين إلى حدّ

الجمالية بلغة سلسة مستساغة ، لكن لا تخلو من

إبهار القارئ الذي يمسك بتلابيب الصورة و

المشهدية حتى النهاية، فلا نقف معه كــقرّاء ، على

فواصل، إذ الكتابة فيض من التشويق، يأخذ بنا إلى

ظلال الحدث ، فلا نتوقف حتى نبلغ النهاية ..

كالمياه تنساب الكلمات مسترسلة و الحبكة مكتملة

الجمالية ، عذبة الخرير ، فلا تشعر و أنت تقرأ

للأستاذ ( مصطفى ) بالملل ، بل هي تأخذك الى

عمق الحدث و بكل نعومة الاسترسال ..

قلم جريء و معطاء ، بجرة يأخذنا إلى عوالم

قصصية تشير إلينا بإحكام ربط حزام الأمان ،

لنسافر عبر الكلمة الحرة و الصادقة بأجواء يغلب

عليها طابع الواقعية فتُجنّد الخيال فقط لخلق

مسامرة بين هذا و ذاك ، بين نفسك تراها بمواقف و

حالك لو استفدت ممّا هو مغاير ، لتحصل تلك

الإضافة من خبرات الكاتب ، فيحصل ما يسمى

بالمساهمة خلال عمل تشاركي بين الكاتب و القارئ ،

تسهم بها في تطوير ذاتك ، و إلا فما نفع المطالعة لو

لم تضف للقارئ فيتمكن من تطوير فكره عبر تجارب

الكاتب ؟

قصص تحمل أكثر من دلالة بهذه المجموعة ..

نصوص تحملنا إلى ضفاف النهاية بمهارة ربّان يحمل

أفكاره و تجاربه و بعض خصوصياته مرتسمة ببعض

أركان النصوص ..

قلم مشبع بالسخاء حدّ الاكتفاء ، بل و يحملنا إلى

ارتفاعات شاهقة من الجمالية و ارتفاعات أخرى

تفسح مجال التأويلات المتاحة فيكتسي النص ،

على يد المبدع ، تأشيرة للسفر و التوغل

داخل خبايا شخوص القصة ..

مجموعته القصصية هذه ، جاءت لتلخص

مسير حياته و مسارها ، فكان كاتبنا ( مصطفى )

“العقاد” ، و هذه تسمية أطلقها عليه الأديب و الناقد

الأستاذ ( محمد بن يوسف كرزون ) ، الكاتب و

الناقد السوري الأصل ، فكان أنموذجا حيّا للإنسان

الذي عمل على تغيير الوضع السلبي بمحيطه و

بمجتمعه ككل ، لإيمانه بأن الكلمة و الأدب إن لم

يغيرا الشعوب فلا جدوى من الكتابة أصلا ..

فإن لم نستظل تحت أغصانها وارفة ، فلن

تكون غابات كثيفة بما تحمله من معان و عبره

ترفرف بأجمل الكلم و تهدينا رفيفا عذبا لكل معنى

ينساب عند كل نسائمها المنكهة أدبيات ؛ من قصص

و شعر ..

تلك هي الظلال ، و تلك هي النخيل الباسقات تحملنا

إلى عوالم قصصية ، ترفعنا إلى التحليق عبر

مجموعة « المبدع ذو الضّفّتين » بقلم الأستاذ

( مصطفى الحاج حسين ).. قراءة ممتعة .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى