دراسات و مقالات

مقدمة لديوان”السفر يقتات حقائبه- الشاعر عبد الجبار الفياض

نجاح إبراهيم

أسرارُ النّخلة

“قصيدة الاختلاف”

مقدّمة صُغرى:

لا تسألوا النّخلةَ عن قامتها،

بل اسألوها عن سرّ دفينٍ تحتفظُ بهِ في أعماقها، حين تسافرُ في عنفوانها وحيدة في مداراتها القصيّة.

مقدّمة كُبرى:

نخلٌ..

نخلٌ..

إنّ قارئ ومواكب قصائد “عبد الجبار الفياض”، يشعرُ بأنّ كلَّ قصيدة له هي عبارة عن نخلة في أرض الشّعر، التي تحبلُ بالضّوء والأناشيد والرّطب والأحاجي..

وكذلك أنا ..

حين أقرأها أشعرُ بنداءات العُلى، فأقفُ على رهبة وأنا أُصغي، وأحسُّ بأنَ للنّخل قامة تجذبُ الأرواحَ للارتقاء ، وأنّ بخوراً ينتشرُ في المكان ، فيتقنُ الطيرانَ في دمي.

لذلك أدخلُ في عالم له طعمُ القداسة ، ورائحةُ مطرٍ في فجرٍ يسبغُ على فضّته أذان يُردّد بخشوع.

فالشّاعر” الفياض” يدسُّ عن خبرة ودراية في حانات القصيدة ضوءاً يُشعلُ راقصات الذّاكرة ليحتفينَ بحياةٍ ماضية وما فيها من قصصٍ وحكاياتٍ وغوايات وخمرٍ ورقصٍ ووجعٍ وفجائع.

ديوانه ” السَّفرُ يقتاتُ حقائبَه” يوغلُ بنا في الماضي ، سفراً / لا يخرجُ بحقائبَ حُبلى سفاحاً/ كما المئات من بابا، وإنّما يفرشُ الطرقات للخطو بالحكايات النبيلة، الدّاهشة؛ يلملمُ بخفّ شوقٍ سرداً ماتعاً عبر رحلة جلجامش التي تفتحتْ لها الأبوابُ ومفاتيحُ الجهات الأربع، ليلتمعَ له الحصرمُ عنباً، فيأسو بالضّلال تغرقه فيه ” أوروك” ، إلى ذي القروح وهو يوقدُ في كلّ خيمة امرأة وليلةً ماجنة ، لتأتي النّهاية تشبهُ صحراءَ غارقة في الصّفرة والفحيح، إلى بلقيس وهي تتهيأ لارتباطٍ مقدّسٍ بملكٍ بعد وشاية الهدهد، إلى طَرفة وسيرة مولد بين أساطير الأولين وظلال سيوف الآخرين ، يسردها الشاعرُ لنا بسنام ناقة حتى نشهدَ موتاً عملاقاً. إلى سالومي ورأس النبي يحيى على طبق من معدنٍ ثمين، إلى العباسة ، إلى ابن زريق، إلى زرياب وولادة وعروة بن الورد والسّياب….و…

يراودني سؤالٌ:

ما الذي جعل الشاعر ينبشُ الماضي بإرثه ، ويوقظ تلك الشخصيات ؟

أقولُ: إنَّ الشّاعر أعاد تلك الشّخصيات لما لها من حكايات مثيرة يمكن اسقاطها على واقعنا ، ولعله استفاد منها ليخلص إلى رسالةٍ يرغبُ في أن تصلنا؛ خاصة وأنّ ذلك العهد لا يبتعد في أحداثه عن واقعنا، فالشّعر مقيّد بالواقع بكلِّ مستوياته؛ الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، والنصُّ المنتجُ هو ما يفرزه هذا الواقع من خلال عمل إبداعي يعكسُ رؤية الشّاعر بوصفهِ خالقاً للنّصِّ وباعثاً له ، لهذا فإنَّ ما يحدث للذات لا يمكن فصله عما يحدث في المجتمع بصفته فعل وحركة، فهذه الذات تظلُّ في دائرة الحياة المجتمعية يصطبغ النّصُّ بلونها ويأخذ شكلاً من خلال لغة المعاناة والتوظيف المتقن.

فّإذا ما قرأنا قصيدة (اعترافات ابن جلا) لوجدنا أنها تعني كلَّ واحدٍ فينا تسردُ معاناته وتفردُ أحزانه وضياعه في هذا العصر، وما يجري بين جدرانه:

إلى أين تذهبٌ؟

قبورٌ مفتوحةٌ

لا تدري متى تُغلق

نتنفسُ برئةِ زمنٍ

يحرسهُ خوفٌ باردٌ..” ( من قصيدة اعترافات ابن جلا)

إنَّ كل قصيدة للشّاعر الفيّاض تُعدّ وثيقةً إبداعيةً يخالطُ فيها بين الحياة المعاصرة وما تتضمنُ من مجريات ، وبين الحياة السّالفة ، وذلك ليحظى النصُّ على تأثيرٍ شديدٍ في المتلقي ، فما كان قديماً هو متجذّر في مسامه ، يشبه ماءاً ساكناً حرّكه الحاضر حينما أيقظه الشّاعر بتقريه للحياة وسفره الدائم المشهود له ما بين زمن بعيدٍ رافلٍ بإرثه وحاضرٍ جاثم بأحداثه ؛ حتى لكأنَّ السفر أراد أنْ يأكل الحقائب من كثرة لوبانه!
ثمّة بلاغة واضحة كعين الشّمس يتعمدُ الشّاعر الربط ما بين هذين العالمين، أولهما نبش تلك الشخصيات –كما أسلفنا- والارتكاز على سرد أحداثِ حياتها، وثانيهما اصراره على الدلالات والأبعاد التي يرمي من ورائها الكثير.
لهذا نجدُ نصَّ الفياض نصّاً مختلفاً مغايراً، قابلاً للتأويل والاختلاف ،فالنّص الذي سمَته الاختلاف يكون ذا رؤى دلالية ، وفضاءات تأملية مفتوحة، وتجارب عميقة ملتقطة من الواقع ، بيد أنها تلامسهُ فقط لترتقي بالتخييل، ناهيك عن المخزون المعرفي لدى خالق النّص المختلف، ولغته الثرى، وايحاءات عباراته، فالإيحاءات فيه كالنبع تتوالدُ من خلال اللا تحديد في النّسق المضمر، إذ تنبثق دلالات وفيرة ، لهذا يرتقي النصُّ من حالته النثرية إلى الشعرية اللاتحديدية، وهذا يتمُّ عبر القراءات التي تنفتح على تآويل غير قليلة ، إذ لا يقف النصُّ عند إحداها ، وإنّما يستمرُّ مسافراً ومسافراً كالحقائب التي تنفتح على طرقٍ وفضاءات، ولذلك فالشاعر ” الفياض” تشكل تجربته الشعرية مساراً نصيّاً مغايراً بتخليقاته الشعرية :
….

أيّها السّيد المطاع بسيفه

ولو أنّ جلدك نفورٌ مما تحت

هلاّ خرجت من ظلمةِ الفوق ومضةَ برق
سلخت طيشك لحظةَ عشقٍ في داخل مضطرب
لعله لغز..
يسهلُ أن تراه نجمةُ صبح….” من قصيدة دموع جلجامش

الخطابُ الشعريُّ لدى “الفياض” يمتازُ بفضاءِ الفكرة والتعبير عن الرّؤيا والوصف، إذ نجده يقودُ ذلك كلّه بلغةٍ سامقة تجلسُ على عرشٍ من لازورد يجمعُ ما بين الخضرة والزُرقة كملكة الماء عابقة بالجزالة والمعنى ، عالية كنخلة في أرض العراق. إننا نلمحُ دونَ عناءٍ ما تحملُ وتتضمنُ من أنساق ملوّنة ومتوهّجة الانسكاب والتراكيب، مما يدفع بالسّرد لأن يكون قائماً على تدفّق العوالم الداخلية والخارجية ، استناداً إلى غزارة المخزون اللغوي الذي يشكّلُ قاعدة متينة للّغة وصورها داخلَ النّصّ وعبر فضائه:

“..

أجْمِل بساعةٍ

وهبت ما أضناه مختصراً في عيونِ امرأة

كأنَّ الشمسَ تكتبُ قصيدةَ شروقها الأوّل لحظة التقيا !

بين ثأرٍ وعشقٍ

يغلقُ صفحة سيفه المهزوم..” من قصيدة “ذو القروح”

أكاد أسمع صوت الشّاعر ذي القروح في قلم ” الفياض”، الثائر ضد القبح والظلم عميقاً آتياً من وديان سحيقة لها صدى مؤثرٌ ، ممتلئ بالصدق والرّغبة في التغيير ، وهذا لم يأتِ من فراغٍ، بل من تجارب كبيرة خاضها متوغلاً في عروقها ليستحدثَ موعظة مبطنة بالخلق والأملِ والغدِ الأفضل ، فالشّاعر الفياض ” حكيمٌ عن جدارة ؛ ففي كلِّ قصيدة نستطيعُ إيجاد حكمة، نسطرها على جدران وجداننا وذاكرتنا لنستضيء بها:

” السّماءُ لا تبتسم إلاّ قليلاً / الحصرم لا يُعصر خمراً/ كم من نصالٍ تكسّرت على رخامٍ ،كاعب خالطها من السحر جنون؟/ الأقزام لا تتعملق، لكنّ العمالقة لا يتقزّمون/ تعساً لارتقاءٍ على سلّمِ لحمٍ بشريّ/ حاطب ليل بفأس أعمى/ لا يمكن لخنزير أن يرى السّماء !/ لكلّ عاشقة لغة/ سحقاً لميزانٍ بعينٍ واحدة.. الخ..

في قصائد الدّيوان هناكَ شعرٌ ، بل مدى من شعر ، والكلمة فيه تتجاوزُ نفسها ، تتفلتُ من قيودِ حروفها القليلة لتعطي معنىً آخرَ، وصوراً مغايرة ..

فالقصيدة عند ” الفياض” تبدو خلقاً فنياً وشعرنة مستمرّة ، وانبعاثات دائمة لأنساق تشكيلية فنية وافرة الإيحاء والرّموز ، تضجُّ بعمق الرّؤية وألق النسق الجمالي لترتقي إلى أعلى كالنخلة التي يستهويها فيروز السماء..

قصائد لا تقيد نفسها في إطار، ولا توجّه البوصلة باتجاه سمتٍ واحد ، ولا تبقى بقالبٍ معين، وإنّما هي في رواح دائم من المتغيرات التشكيلية والأساليب التصويرية الباهرة مما تجعلنا كمتلقين نبحرُ بالعبارة الرّشيقة المكتظة بالمعاني ، تسابقُ الرّيح فنعطّر أوردة ما فينا من حياةٍ لتنبعثَ ألفُ حياة، على الرّغم مما في القصائد من اغترابٍ وانكساراتٍ وقدرٍ ظالم، فرضت كلَّ هذا ظروفٌ قاهرة كالجوع والعطش والحزن ، بيد أنَّ الشّاعر أبرزها ليمرَّ فوقها بما هو آتٍ من أملٍ وبشارات:

” أين ما تمطرين

أنتِ في أرضي

ولو صرعتك ريحٌ في غير هذا ..” (من قصيدة العباسة)
قصائد مثقلة بالصّورِ الحيّة ،تجسد الأفكار بشكلٍ باهرٍ ، كلُّ قصيدة تُعدُّ مسرحاً يتلقى القارئُ من خلال المشاهد المتدفقة معاني واسعةَ المدى ، فنسيج القصيدة يتمظهرُ بطريقتين لإبراز المعنى، الأولى بشكلٍ مباشرٍ، والثانية بشكلٍ يتخفى وراء الدّلالة ، وهذا إنْ دلّ على شيءٍ فإنّما يدلُّ على وعي الشّاعر وقدرته على إيصال فكرته بطريقة داهشة ، معبّراً من خلال نصٍّ يفتح المخيلة على برارٍ وأمداءَ من رعاف الجمال.. إنَّ أيَّ نصٍّ لا يخلو من اسقاط دلالي يبرقُ في القصيدة فنستبشر غيثاً، ولعلَّ ما هو لافت وباهر جمال الوصفِ عند الشّاعر إذ ترفلُ كلُّ القصائد بهذا البَهاء الموشى بأقواس قزحٍ اللامعة ، وهذا ما يجعلنا دائماً في حالة ترقب لما في كلِّ حقيبة من حقائب سفره التي نعشق أن تُفتحَ أمام ولعنا:

” رَقصةٌ

كشفتْ عن أنهارٍ لم ترها شمسٌ

فطاشَ على ضفافها كلُّ وقار..” (من قصيدة سالومي)

نصُّ ” الفياض” الشّعري كأيّ نصٍّ حَداثي ، يميلُ إلى التعقيدِ والتّشابكِ والانزلاقِ ، أي لا يمنحُ معناه بسهولة ، ولا يرمي بعطره في الأكفِّ ، إنّه صعبٌ لا يستنفذ معانيه تفاسير عدّة ، يحتاجُ كما قلتُ إلى قراءات عديدة ، فالقراءة الأولى تشكُّل جزءاً أو خطوة في فهمه ، ومن المعنى اللانهائي له..

ففي القصيدة لا نقطة توضعُ على السّطر فينتهي الكلام وينام المعنى ، وإنّما ثمّة مدىً مفتوحٌ يشبهُ البحرَ بغناه وهذا يتأتى من كونه نصّاً مستقلاً ، مكتظاً بالقوّة والجمالِ ، زاخراً بما فيه من أيديولوجيا نصيّة:

” عذراً شريان قصائدي

عشّاري على مساحة سريري

أمشيك كلَّ يومٍ بلفافةِ تبغٍ من وريد..” (من قصيدة نقشٌ على شاهدة)
تمتازُ قصائد” السّفر يقتاتُ حقائبه” بمواضيع حياتية مهمّة، موجعة حدَّ الانصعاق ، توخزُ في الدّم حرقة، تصدح ألماً ، ومع ذلك فإنَّ ثراءَ قصيدته ليس بما تحملُ من موضوعٍ غارقٍ في النّبل ولا أفكار وقيم ، ولا بشكلها الجميل المرتدي عباءة معطرّة بالقِدَم فحسب ، وإنّما لما تمورُ به من أسرارٍ عميقة ، وتجربة لافتة ورؤى مغايرة ، لهذا عدّت قصيدته قصيدة الاختلاف، أو نصّ الاختلاف وليس نصّ الاتفاق ، والذي من صفاته العمق لا السطحية، والذي لا يحايث عالماً محدداً ، مدركاً وإنّما ينفتح على عوالم متنابعة ، متجدّدة بدوام تجدّد سيرورتها الوجودية ، لهذا نجده متغيراً ومتناقلاً من الحاضر إلى الآتي، حاملاً معه رؤاه المتفتحة كزهرة.
وبعد:
لقد أنبتَ ” الفياض ” قصائدَه من تربةِ الماضي الجميل، بكلِّ ما يحملُ من أوجاعٍ وآمال ، ورطب، وحين أترفنا نظرنا بالشّجر العالي ، وجدنا نخلاً مزدحماً بالرُّؤى ، فأدركنا أنَّ الشّاعرَ قرأ العالمَ والتاريخَ والأحداث وكتبَ الأدبِ قراءةً مشحونة بالانفعالات والكلام والأفكار، ثم سمى العالم بأسماء جديدة بعد أن أوصلتها الحقائبُ حيث محطاتنا، وقبيل أن يقتاتها السّفر يعاودُ الشاعرُ اغترافاً جديداً، وإبداعاً جديداً مختلفاً.

نأملُ ألا يقف السّفرُ ذات يوم، لنظلَّ مترقبين الدّهشة والغيثَ وملاحمَ العناق في المحطات ، نكتسي بالنّدى والماء ” وهل أجمل من ماءٍ يلبسه حُسْنٌ عارٍ؟!.”

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى