دراسات و مقالات

مقالة نقدية لقصيدة حيدر الأديب “هذا قميصي على وجهك أعلنه

منى أحمد البريكي

مقالة نقدية لقصيدة الشاعر والناقد العراقي حيدر الأديب “هذا قميصي على وجهك أعلنه ”

أستمتع كثيرا وأنا أتابع ما يكتبه الصديق الشاعر حيدر الأديب شعرا كان أو نقدا.
كقارئة شغوفة بالشعر أجد في قصائده تفردا وتميزا يدعوني إلى متعة إعادة القراءة مرات علني أظفر بما تحمله من معان ذات منحى رمزي ومجازي وأصل الى استعاراته التي تفرض على كل قارئ رؤية تحليلية خاصة به مرتبطة بتجاربه الذاتية وثقافته وانفعالاته مع النصوص وبها.
وسأحاول التفاعل مع آخر ما قرأت له:قصيدة شدتني منذ أن قرأت عنوانها وحلقت مع كلماتها في عالم الحب والمشاعر الفياضة.
العنوان جاء جملة إسمية مبتدؤها مركب بالإشارة جعله عائدا على ذات المتكلم الشاعر”هذا قميصي…” وخبرها “على وجهك أعلنه” جملة داخل الجملة تقصدها الشاعر ليجعل قميصه عنوان قصة حب وبرهان براءة في آن يرفعه في جهها ،علاوة على أنه دواء لعيني حبيبته وقلبها الذي خالطه شك أقض مضجعها وكأنه قد استعار قميص يوسف عليه السلام الذي أعاد البصر لعيني أبيه النبي يعقوب المكلوم على فقده وغيابه الذي طال وبذلك تكون مفردة القميص التي اختارها بعناية مشجبا لمعان مختلفة ومحملا لعمل فني غاية في الإتقان وكأننا بصدد مشاهدة مصمم أزياء يعرض ابتكارا صممه بعناية(القصيدة )ووشاه بصور شعرية جميلة ليعلنه براءة من الشعر العادي المستهلك ويجعله نصا باذخا
كان زاد مسافر أبحر بنا إلى مدن اللذة والإحساس العميق، الشفيف والخيال الجامح المعطاء ممتطيا صهوة موروث ثقافي متنوع وقد تسلح بصفته كناقد حداثي ينأى بنفسه عن القوالب الكلاسيكية الجامدة في النقد ويتيح لقلمه مساحات موازية مع النص لإثراء تجربته الشعرية بقصيدته هذه وهو يراوح بين مخياله وقريحته وأدواته النقدية التي ترتقي بنصوصه إلى مستوى الإبداع فينزاح قلمه عن المألوف ويبدأ قصيدته بآية من سورة الضحى يقسم فيها الله بأنه ما نسي حبيبه المصطفى صلوات الله عليه ولا سلاه بل شمله برحمته وعطاياه حين آواه يتيما وهداه ضالا وأغناه فقيرا.
وقد استهل الشاعر بوحه بالقسم وأكد لحبيبته أن وجهها حاضر وماثل في وجدانه لم يبرحه رغم الغياب:”فما ودعني وجهك اذ الغياب نوى” تحيلنا على الاية الكريمة(وما ودعك ربك وما قلى )وفي هذه الجملة تحديدا نلمس مهارة وصنعة في اختيار مفردات بعينها وتطويعها لسياقات مختلفة عن النص الأم فالاستعارة جزئية رغم وضوحها كما نجد في بقية الأبيات تناص مذهل كقوله(هوى ما نطق عن هوى/تعبدا/وما غوى/إليك اهتدى/في العالمين/ثاني اثنين فيه إحالة على “سورة التوبة الآية40/ما نوى/لا ريب/إلا ما سعى/المنتهى )
إذن يبدو شاعرنا وفيا في قصيدته هذه لمقولته :”إن اللغة وسيط أشد خطرا في التلاعب بمقاسات المعاني والتسلل الى شعورنا لترويضه نحو هذه المقاسات.”فقد تلاعب بمهارة بالمعاني وجعلنا نستمتع بإيقاع عبارات النص القرآني في مفردات استعملها في سياق مختلف ولم يقتصر فيها على التناص فقط بل تعداها الى الوصف بصور شعرية فجرت لوعته وشغفه في ثنائية “الأنا”:الشاعر المتكلم والمعبرعن حالة حسية تطورت لتصبح نفسية بامتياز(ما تلون قلبي بينهما:الضحى والليل وقد تدفق الزمان هنا ليساهم في رسم المشهد الذي صوره الشاعر.
القصيدة فيها توزع بين ذاته: (ما ودعني …في دمي …في جمرا… لم أدع. …أنا ثاني إثنين. ..في مسودة سري…)وهو في عدة أبيات في وضع المتقبل المستكين الخاضع لسلطان الشعور وبين الذات المخاطبة حبيبته التي نسب إليها كل الصفات الآسرة التي جعلته طوع حبها وبسطت نفوذها عليه نوعا وكما (وجهك خبر الوجود أجمعه،تفرد وجهك، حبك،بك،إسمك،إنك المبتدأ، كفاءة الورد،تمشين….وحيا،تمشين بي قصدا،كان الحب قبلك لهوا،هنا أنت هنالك أنت. ..،هي أنت البداية والمنتهى. )
إضافة الى ذلك نلاحظ تدرج الشاعر في الوصف وانتقاله إلى جمعنة المتكلم بدأه بطلب (تعالي إلى حياة نحبها /لا نخلفها عشقا…)ثم عاد ليصف حاله قبلها ثم معها وظف فيها ثنائية الفراغ والامتلاء
يتجلى الفراغ كما في قوله:سدى،كان العمر قبلك لهوا ،كان لعبة ،كانت أيامه أغلفة فارغة، أقمصة ممزقة .
ويبدأ الامتلاء بوجود الحبيبة الآن ؛وجود روحي عاطفي رغم المسافات مقبرة المدى الضيق التي لم تقدر على إبعادها عن روحه ونبضه فهي “هنا أنت هنالك أنت”/أنت هدى/سر الجمال وكنهه/وردة “.
ويختم الشاعر قصيدته بإعلان قميصه عنوان البراءة والنقاء:”حبه المحض فيه براءة من كذب،خال من توقيع ذئب ماكر،فيه ذكريات أضنته قبلها.
إن الكتابة عن نص شاعر وناقد مقتدر،عتاده أبجديات الكتابة وفنونها مجازفة كبرى أخوضها راجية أن يكون توحدي مع ما قرأته قد استنطق بعض أبعاده الشعرية وخاصة البنيوية وأنني قد كنت موضوعية في بحثي مجمل تمثلات القصيد ومفرداته بقصد التعايش معه وليس بمنطق الحكم عليه أو له.دون أن أكتم إعجابي بقلم انزاح في كتاباته الإبداعية التي عانقت الروعة وكان للاستعارة والمجازات فيها حضور طاغ إضافة إلى الوصف.
لا أذيع سرا إذا قلت أنني أشعر وكأنني قد عدت من عرض أزياء أكثر ما شدني فيه “قميص الأديب “وقد زينه بدرر نادرة وألوان تخاتل الفكر والوجدان معا وقد كانت قراءتي له ذوقية بالأساس وأتبنى قول الجرجاني :”إن هذا الإحساس قليل في الناس. ..ولا تستطيع أن تقوم الشعر في نفس ما لا ذوق له.”
وأختم بالقول اعتقادي بأن الشاعر وهو يكتب أبيات قصيدته يقدر أن القارئ له من الموروث وسعة الإطلاع الكثير لما تزخر به من معان وإحالات دلالية تجبر قارئه على المشي بحذر على حبل علقه الشاعر فوق قمتي المتخيل والموروث الديني والأدبي فلا تكون قراءته الأولى كقراءته الثانية ولا الثالثة.
نص القصيد:
“هذا قميصي على وجهك أعلنه”
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والضحى
والليل إذا سجى
وما تلون قلبي بينهما
من جوى
حضر الوقت فيهما تعبدا
فما
ودعني وجهك
إذ الغياب نوى
وما نوى الغياب حاشا له
ولكن المسافات
جنازة المدى
تنزل حبك في دمي هوى
هوى ما نطق عن هوى
تجذر للجمال صوتا يخبره
أنه هو
والباقي صدى
ليس الوجود الا خلوة بك
على مرأى التلذذ ما صرّح
وما غوى
ليس الوجود الا اسمك
ينبّه الوجود إذا نسى
وجهك خبر الوجود أجمعه
يخبره في المرايا
أنك المبتدا
يا كفاءة الورد ما عاش منتشيا
بلونه
وما صافح الحدائق شذى
تمرّس الشوق فيّ جمرا
حتى تطاول
جنونا من لظى
تمشين الى الأشياء وحيا
يراقص سرها وحبا وندى
لا أسميكِ
وكيف أسميكِ
وكل جمال اليك إهتدى
تفرّد وجهك
في العالمين طرا
لم يناله شبه ولا صدى
تعالي الى حياة نحبها
لا نخلفها عشقا سوى
هي أنت تمشين بي قصدا
وكل قصد سواك سدى
أنا ثاني أثنين في غارك
حزنك وأنا نعشقك معا
كان العمر قبلك لهوا
كان لعبة للطفل ما نوى
كانت أيامه أغلفة فارغة
لم أدع يوما له محتوى
كان أقمصة ممزقة وعطر
تجاهله الشعور وقد نسى
ينصرف القلب اليك بداهة
انصراف البخور
الى ما اكتوى
هنا أنتِ هنالك أنتِ
لا ريب فيهما انتِ هدى
مفاتنك سر الجمال وكنهه
وان ليس للجمال الا
ما سعى
في مسودة سري
أحتاجك علنا
أحتاجك وردة وندى
في سحر المالكين أنفاسهم
أتلوك انتشاءا إذ الطل همى
هذا قميصي على وجهك أعلنه
لا حب كذب عليه
ولا توقيع ذئب عوى
فيه ذكريات من الجب أبلغها
ان الحزن نبوتي والسعد عدا
العزلة فضيحة كبرى
ونعاس
هو في عين الحب قذى
ما أنا الا مظاهرة ضدي
هي أنت البداية والمنتهى

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى