دراسات و مقالات

مع القصيدة اليتيمة – دوقلة المنبجي

السعيد عبد العاطي مبارك

 

هَل بِالطُلولِ لِسائِل رَدُّ أَم هَل لَها بِتَكَلُّم عَهدُ
أبلى الجَديدُ جَديدَ مَعهَدِها فَكَأَنَّما هو رَيطَةٌ جُردُ
مِن طولِ ما تَبكي الغيومُ عَلى عَرَصاتِها وَيُقَهقِهُ الرَعدُ
وَتُلِثُّ سارِيَةٌ وَغادِيَةٌ وَيَكُرُّ نَحسٌ خَلفَهُ سَعدُ
تَلقى شَآمِيَةٌ يَمانِيَةً لَهُما بِمَورِ تُرابِها سَردُ
فَكَسَت بَواطِنُها ظَواهِرَها نَوراً كَأَنَّ زُهاءَهُ بُردُ
يَغدو فَيَسدي نَسجَهُ حَدِبٌ واهي العُرى وينيرُهُ عهدُ
فَوَقَفت أسألها وَلَيسَ بِها إِلّا المَها وَنَقانِقٌ رُبدُ
=====

عندما نقلب في خط سير شعرنا العربي عبر العصور نتوقف مع قصيدة (اليتيمة) و التي تعد من عيون الشعر العربي و أجمله لدوقلة المنبجي شاعر مجهول و لكن خلدته قصيدته الرائعة —
و أول ما قرأتها كانت في كتاب الشاعر و الاذاعي فاروق شوشة بعنوان ( أحلي عشرين قصيدة حب ) و قد جمع فيها خلاصة القائلين من أساطين الفكر و عمالقة الأدب و كنت في بداية السنة الأولي بالجامعة !!.
و بعد مدخل سريع لجو ومناسبة القصيدة اليتيمة
و قد سميت بهذا الاسم لسببين :

= لأن صاحبها مات عنها ولم يعرف له غيرها
= ولأنها فريدة لا مثيل لها في حسنها وجودة سبكها

و من ثم قد قيل إنها قتلت صاحبها، وقد نسبها أربعون شاعراً لنفسه، وكأنهم تزوجوا هذه (اليتيمة الفائقة الجمال)..
والراجح أن قائلها هو: (دوقلة) كما يؤكد ذلك ثعلب المتوفي ٢٩١ هـ ، ويزعم جورجي زيدان أنها من الشعر الجاهلي..
وللقصيدة الشهيرة قصة ممتعة قد تدخل في باب الأساطير ولكنها بمثابة تقديم احتفالي لقصيدة فريدة تمنى أكثر من شاعر أنه أبدعها..
تقول الروايات إنه كان لأحد أمراء نجد في العصور القديمة ابنة فائقة الجمال والذكاء مبدعة في الشعر اسمها (دعد) تهافت عليها الخطاب وهي ترفض وتشترط في من يتزوجها أن يصفها بقصيدة تخلدها وتكون أجمل من شعرها..
سار ذكر الأميرة دعد في الآفاق وطار وتسابق الشعراء في وصفها رغبة في الحظوة والزواج، ولكنها -لذكائها وثقافتها- تنتقد قصائدهم واحداً بعد واحد وتُظهر مافيها من المثالب..
وسمع (دوقلة المنبجي وهو شاعر مجهول) بالقصة والشرط وكان قد رأى هذه الأميرة الجميلة فأبدع قصيدته الشهيرة، وسار اليها يريد أن ينشدها بين يديها، وفي الطريق الصحراوي صاحبه أعرابي وسامره وسأله عن سبب سفره فذكره له وأسمعه القصيدة فطرب لها الأعرابي وطلب إعادتها مراراً ودوقلة مسرور من إعجاب الأعرابي بشعره، حتى حفظ الأعرابي القصيدة كاملة، فقتل دوقلة غيلة وهو نائم وحثّ الخطى الى الأميرة دعد وأنشد بين يديها القصيدة فطربت لها طرباً شديداً وطلبت من الأعرابي أن يزيد فيها بيتاً -كي تختبره- فعجز وأصابه العي، وحاورته فأحست أنه كاذب وقاتل ، فقالت لحراسها: اقتلوه فإنه قتل مبدع القصيدة وسرقها ولو كان قائل القصيدة حياً لتزوجته فوراً.. فسألها والدها: وكيف عرفتِ أنه سرق القصيدة، فقالت : لأنه يقول:
إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني
أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ
والأعرابي ليس من تهامة ولا في لهجته شيء من هوى نجد، كما انه عجز عن اضافة بيت واحد فقُتل ..
وهذا نص القصيدة (اليتيمة )

هَل بِالطُلولِ لِسائِل رَدُّ أَم هَل لَها بِتَكَلُّم عَهدُ
أبلى الجَديدُ جَديدَ مَعهَدِها فَكَأَنَّما هو رَيطَةٌ جُردُ
مِن طولِ ما تَبكي الغيومُ عَلى عَرَصاتِها وَيُقَهقِهُ الرَعدُ
وَتُلِثُّ سارِيَةٌ وَغادِيَةٌ وَيَكُرُّ نَحسٌ خَلفَهُ سَعدُ
تَلقى شَآمِيَةٌ يَمانِيَةً لَهُما بِمَورِ تُرابِها سَردُ
فَكَسَت بَواطِنُها ظَواهِرَها نَوراً كَأَنَّ زُهاءَهُ بُردُ
يَغدو فَيَسدي نَسجَهُ حَدِبٌ واهي العُرى وينيرُهُ عهدُ
فَوَقَفت أسألها وَلَيسَ بِها إِلّا المَها وَنَقانِقٌ رُبدُ
وَمُكَدَّمٌ في عانَةٍ جزأت حَتّى يُهَيِّجَ شَأوَها الوِردُ
فتناثرت دِرَرُ الشُؤونِ عَلى خَدّى كَما يَتَناثَرُ العِقدُ
أَو نَضحُ عَزلاءِ الشَعيبِ وَقَد راحَ العَسيف بِملئِها يَعدو
لَهَفي عَلى دَعدٍ وَما حفَلت إِلّا بحرِّ تلَهُّفي دَعدُ
بَيضاءُ قَد لَبِسَ الأَديمُ أديم الحُسنِ فهو لِجِلدِها جِلدُ
وَيَزينُ فَودَيها إِذا حَسَرَت ضافي الغَدائِرِ فاحِمٌ جَعدُ
فَالوَجهُ مثل الصُبحِ مبيضٌ والشعر مِثلَ اللَيلِ مُسوَدُّ
ضِدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ
وَجَبينُها صَلتٌ وَحاجِبها شَختُ المَخَطِّ أَزَجُّ مُمتَدُّ
وَكَأَنَّها وَسنى إِذا نَظَرَت أَو مُدنَفٌ لَمّا يُفِق بَعدُ
بِفتورِ عَينٍ ما بِها رَمَدٌ وَبِها تُداوى الأَعيُنُ الرُمدُ
وَتُريكَ عِرنيناً به شَمَمٌ وتُريك خَدّاً لَونُهُ الوَردُ
وَتُجيلُ مِسواكَ الأَراكِ عَلى رَتلٍ كَأَنَّ رُضابَهُ الشَهدُ
والجِيدُ منها جيدُ جازئةٍ تعطو إذا ما طالها المَردُ
وَكَأَنَّما سُقِيَت تَرائِبُها وَالنَحرُ ماءَ الحُسنِ إِذ تَبدو
وَاِمتَدَّ مِن أَعضادِها قَصَبٌ فَعمٌ زهتهُ مَرافِقٌ دُردُ
وَلَها بَنانٌ لَو أَرَدتَ لَهُ عَقداً بِكَفِّكَ أَمكَنُ العَقدُ
وَالمِعصمان فَما يُرى لَهُما مِن نَعمَةٍ وَبَضاضَةٍ زَندُ
وَالبَطنُ مَطوِيٌّ كَما طُوِيَت بيضُ الرِياطِ يَصونُها المَلدُ
وَبِخَصرِها هَيَفٌ يُزَيِّنُهُ فَإِذا تَنوءُ يَكادُ يَنقَدُّ
وَالتَفَّ فَخذاها وَفَوقَهُما كَفَلٌ كدِعصِ الرمل مُشتَدُّ
فَنهوضُها مَثنىً إِذا نَهَضت مِن ثِقلَهِ وَقُعودها فَردُ
وَالساقِ خَرعَبَةٌ مُنَعَّمَةٌ عَبِلَت فَطَوقُ الحَجلِ مُنسَدُّ
وَالكَعبُ أَدرَمُ لا يَبينُ لَهُ حَجمً وَلَيسَ لِرَأسِهِ حَدُّ
وَمَشَت عَلى قَدمَينِ خُصِّرتا واُلينَتا فَتَكامَلَ القَدُّ
إِن لَم يَكُن وَصلٌ لَدَيكِ لَنا يَشفى الصَبابَةَ فَليَكُن وَعدُ
قَد كانَ أَورَقَ وَصلَكُم زَمَناً فَذَوَى الوِصال وَأَورَقَ الصَدُّ
لِلَّهِ أشواقي إِذا نَزَحَت دارٌ بِنا ونوىً بِكُم تَعدو
إِن تُتهِمي فَتَهامَةٌ وَطني أَو تُنجِدي يكنِ الهَوى نَجدُ
وَزَعَمتِ أَنَّكِ تضمُرينَ لَنا وُدّاً فَهَلّا يَنفَعُ الوُدُّ
وَإِذا المُحِبُّ شَكا الصُدودَ فلَم يُعطَف عَلَيهِ فَقَتلُهُ عَمدُ
تَختَصُّها بِالحُبِّ وُهيَ على ما لا نُحِبُّ فَهكَذا الوَجدُ
أوَ ما تَرى طِمرَيَّ بَينَهُما رَجُلٌ أَلَحَّ بِهَزلِهِ الجِدُّ
فَالسَيفُ يَقطَعُ وَهُوَ ذو صَدَأٍ وَالنَصلُ يَفري الهامَ لا الغِمدُ
هَل تَنفَعَنَّ السَيفَ حِليَتُهُ يَومَ الجِلادِ إِذا نَبا الحَدُّ
وَلَقَد عَلِمتِ بِأَنَّني رَجُلٌ في الصالِحاتِ أَروحُ أَو أَغدو
بَردٌ عَلى الأَدنى وَمَرحَمَةٌ وَعَلى الحَوادِثِ مارِنٌ جَلدُ
مَنَعَ المَطامِعَ أن تُثَلِّمَني أَنّي لِمَعوَلِها صَفاً صَلدُ
فَأَظلُّ حُرّاً مِن مَذّلَّتِها وَالحُرُّ حينَ يُطيعُها عَبدُ
آلَيتُ أَمدَحُ مقرفاً أبَداً يَبقى المَديحُ وَيَذهَبُ الرفدُ
هَيهاتَ يأبى ذاكَ لي سَلَفٌ خَمَدوا وَلَم يَخمُد لَهُم مَجدُ
وَالجَدُّ حارثُ وَالبَنون هُمُ فَزَكا البَنون وَأَنجَبَ الجَدُّ
ولَئِن قَفَوتُ حَميدَ فَعلِهِمُ بِذَميم فِعلي إِنَّني وَغدُ
أَجمِل إِذا طالبتَ في طَلَبٍ فَالجِدُّ يُغني عَنكَ لا الجَدُّ
وإذا صَبَرتَ لجهد نازلةٍ فكأنّه ما مَسَّكَ الجَهدُ
وَطَريدِ لَيلٍ قادهُ سَغَبٌ وَهناً إِلَيَّ وَساقَهُ بَردُ
أَوسَعتُ جُهدَ بَشاشَةٍ وَقِرىً وَعَلى الكَريمِ لِضَيفِهِ الجُهدُ
فَتَصَرَّمَ المَشتي وَمَنزِلُهُ رَحبٌ لَدَيَّ وَعَيشُهُ رَغدُ
ثُمَّ انثنى وَرِداوُّهُ نِعَمٌ أَسدَيتُها وَرِدائِيَ الحَمدُ
لِيَكُن لَدَيكَ لِسائِلٍ فَرَجٌ إِن لِم يَكُن فَليَحسُن الرَدُّ
يا لَيتَ شِعري بَعدَ ذَلِكُمُ ومحارُ كُلِّ مُؤَمِّلٍ لَحدُ
أَصَريعُ كَلمٍ أَم صَريعُ ردى أَودى فَلَيسَ مِنَ الرَدى بُدُّ

و في النهاية اتمني ان اكون حلقت بين ظلال كلمات القصيدة و مدي روعتها و عذوبتها و شيوع و ذيوع ابياتها في دنيا الادب و كثرت حولها الآراء و الدراسات مما جعلني اعيدها مرات بين يدي القاريء الكريم كي يتذوق هذا الفن الرفيع دائما

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى