دراسات و مقالات

مع إنشاد الشعر


السعيد عبد العاطي مبارك

تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا أَنْتَ قَائِلُهُ إِنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ 
” شاعر الرسول – حسان بن ثابت “
يُزَيِّنُ الشِّعْرَ أَفْوَاهٌ إِذَا نَطَقَتْ بِالشِّعْرِ يَوْماً، وَقَدْ يُزْرِي بِأَفْوَاهِ 
” عبد الله بن معاوية “
وَمَا هُوَ إِلَّا الشِّعْرُ سَارَتْ عِيَابُهُ وَفِي طَيِّهَا مِنْ طِيبِ مَا ضُمِّنَتْ نَشْرُ
فَأَلْقِ إِلَيْهِ السَّمْعَ يُنْبِئْكَ أَنَّهُ هُوَ الشِّعْرُ لَا مَا يَدَّعِي المَلَأُ الغَمْرُ 
يَزِيدُ عَلَى الإِنْشَادِ حُسْنًا كَأَنَّنِي نَفَثْتُ بِهِ سِحْرًا وَلَيْسَ بِهِ سِحْرُ
” محمود سامي البارودي “
” أن الشعر وضع للغناء والترنم” . 
” سيبويه ” 
——————
إنشاد الشعر:
——
النشيد في اللغة: رفع الصوت، وهو أيضا : الشعر المتناشد بين القوم، وجمع أناشيد ، الإنشاد موهبة..
فالإنشاد فنّا وعلما، تميز به الشعراء من الأولين والمعاصرين، فيذكر لبيدا، وامرأ القيس، والأعشى، والنابغة، والبحتري، وأبا تمام، والمتنبي، وحافظ، وشوقي، وغيرهم كثير.
و يجمل بالمؤدي سواء شاعر أو ملقي فكلاهما مبدع أن يتقن و يمزج في الإنشاد بين سلامة العروض واللغة معا؛ كالممثل و المغنّي الماهر الذي يحبك رسالة الدور في توصيل المعنى واللحن الي المستمع و الجمهور !.
فالأصل في الشعر العربي هو الإنشاد وليس القراءة !!.
و علي الملقي أن يتفنن في ” إلقاء الشعر ” كي يجذب الانتباه والاسماع، سواء كان شاعرا أو مؤديا يتمتع بحسن الصوت حتي يطربهم بهذا الفن الجميل . 
و كل انسان مبدع له طريقته المميزة في الالقاء أثناء القراءات وأسلوب الأداء تجسيدا لكل هذا تجربته الذاتية قولا و عملا من خلال تواصل الشاعر مع جمهوره عندما يبدع .

في البداية نجد أن الشعر العربي علمهم الأصيل الذي يروي و يسجل بطولاتهم و حياتهم و أخبارهم ، في وقت السلم و الحرب مع الاشادة بمفاخرهم و أيامهم و قصصهم . 
و صناعة الشعر بضاعتهم و حرفتهم المفضلة ، فمنذ نشأته الأولي فقد نشأ نشأة غنائية ، و قد سموا الأعشي بـــ ” صناجة العرب و صناجة الشعر ” و ذلك لجمال صوته حيث الصنج و الصناجة آلة نحاسية يطرب لسماعها . 
و صدق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حينما قال : 
«كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه» 
وهو فخر العرب العظيم وقسطاسها المستقيم. 
و الخلاصـــــة : ان الإلقاء الجيد له أثره في نفوس السامعين ، كما أن سوءَ الإلقاء قد يخفض من قدرِ الشعر الجيد؛ لأن الإلقاء عنصر من عناصر الجمال في الشعر، لا يقلُّ أهمية عن ألفاظه ومعانيه وأخيلته . 
يقول عبد الله بن معاوية :
يُزَيِّنُ الشِّعْرَ أَفْوَاهٌ إِذَا نَطَقَتْ بِالشِّعْرِ يَوْماً، وَقَدْ يُزْرِي بِأَفْوَاهِ
و من ثم ظل الشاعر يصول و يجول بين أروقة الشعر و أسواقه حيث يتبارون بالإنشاد والتغنِّي في مساجلات رائعة مدونة في قصص العرب كما نقرأ في كتاب الأغاني لأبي فرج الأصفهاني . 
وقد ارتبط الشعر عند العرب منذ نشأته بالإنشاد والتغنِّي، حتَّى التصقت به عبارات من أمثال: “أنشد الشعر، وتغنَّى بقصيدة …” 
ولذا قال الشاعر حسان بن ثابت :
تَغَنَّ بِالشِّعْرِ إِمَّا أَنْتَ قَائِلُهُ إِنَّ الغِنَاءَ لِهَذَا الشِّعْرِ مِضْمَارُ 
يقول ابن حَيّوس في وصف قصائده:
إذا أُنشدتْ كادت لفرط بيانها تعيها القلوب قبل وعي المسامع
ولا شك أن الأداء الشاجي، والإلقاء المنغّم، والصوت العذب، يستهويهم و يسيطر علي مشاعرهم .

وكان الشعراء ينشدون أشعارهم في أسواق مشهورة، كسوق عُكاظ في الجاهلية، وسوق المِرْبَد في الإسلام، وفي حلقات كثيرة، وفي قصور الخلفاء ومجالسهم، وفي بعض مجالس الأنس والسمر وغيرها، والناس يستمعون ويطربون ويتأثرون.
و بعض الشعراء يتخير من يلقي شعره لسبب ما ، فالصوت الرخيم محبوب و الأجش منفر و مستوحش ، فكان أبو تمام و شوقي لا يلقون شعرهم و يتم تكليف من يؤدي عنهم .
و من ثم نجد امرؤ القيس و الخنساء و كعب بن زهير و الفرزدق و بشار بن برد و غيرهم في العصور القديمة يتمتعون بحس مرهف في الاداء .

وهكذا ظل الإنشاد مصاحبهم حتي في ” العصر الحديث ” مع البارودي وحافظ و شوقي و مطران و نزار قباني و عبد الواحد عبد الرزاق و البردوني و محمد الشهاوي و فاروق شوشة و غيرهم كثيرون .
و الالقاء الاذاعي برز أسماء عديدة في الوطن العربي يتمتعون بموهبة فن الالقاء و الانشاد الشعري كالقراء الذين يجيدون التلاوة ، و لذا أطلقوا علي البعض أنه يمتلك مزامير داود لحسن الصوت و الانشاد الجيدة .

و لإنشاد الشعر و التغني بفن الالقاء أسرار جمالية، تتضح من خلال التحكم في جهاز النطق و سلامة اللغة و تجسيد المعني حسب الرسم الصوتي ، و منها الوقوف، والمد، و الإشباع المتقن لبعض الألفاظ والعبارات، حتي يستقيم الهدف من وراء هذا الالقاء الفني و التذوق الجميل .

كما أنَّ إنشاد الشعر يربي ملكة الموهبة و يهذب الذوق العام في تأملات رائعة هكذا !. 
و علي أية حال ان حالة إنشاد الشعر وإلقاؤه منذ العصر الجاهلي ظل مصاحبا لنظمه، بغية الذيوع و الانتشار الواسع بين القبائل، لعدم وجود الكتابة وعدم انتشارِها بين العرب بشكل ملحوظ ملفت للنظر فكان الوعاء الفعلي . 
و الغطاء المشروع في الأسواق «مواسم الأدب»، و المنتديات التي يؤمها ويرتادها الشعراء لعرض أشعارهم فيتلقفها المستمعون ويحفظها الرواة فتذيع في القبائل.

وخلال دراستي وقعت علي كتاب استاذنا الشاعر الدكتور علي الجندي ” شاعر دار العلوم و عميدها بعنوان “الشعراء وإنشاد الشعر” حيث أجاد و أبدع في ظاهرة الانشاد من خلال سرد حكايات الشعراء القدامي و المعاصرين معا فجاء تفكه مجلس حيث السمع و الطرب بين أروق الشعر و الشعراء .
مع حلبة الإنشاد : 
==============
إلقاء الشعر العربي عبر العصور: 
و كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ينصب لحسان بن ثابت منبرا في مسجده، ويسمع منه، ويقول له: “أجب عني! اللهم أيّده بروح القدس”.

ربما يختلف إلقاء الشعر من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة، كما قد تختلف هيئة الشاعر زمن الإلقاء، وقد يكون لشاعر معين طريقة خاصة به اكتسبها من روح عصره، و ربما القصيدة العمودية و التفعيلة الحر بل كل غرض شعري و مناسبة و حالة القصيدة لها طقوس و مراسم تجسدها النبرات الصوتية و الموسيقي في الاداء التفاعلي عملية تأثيرة و معايشة القصيدة تشخيصا مع جو النص عند إلقاء الشعر في العصور الأدبية المختلفة قديما و حديثا . 
، ثم ننتقل إلى الحديث عن إلقاء الشعر وعلاقته بغرض القصيدة 
حيث تتعمق رؤيته مع مراعاة الفرق بين تلقي الشعر مسموعا ومرئيا ومقروءا.

العصر الجاهلي:
—————

كانت الأسواق منذ العصر الجاهلي ملاذ الشعراء، يقصدونها لإلقاء ما جَدَّ من شعرهمْ أمام مرتاديها، وإن أشهرها سوق عكاظ 
حتى إن عمرو بن كلثوم حين ألقى قصيدته عند عمرو بن هند وقف بهذه المعلقة في سوق عكاظ فأنشدها في موسم الحج حتى يكتب لها الذيوع والانتشار.

في حادثة عمرو بن هند وإنشاد عمرو بن كلثوم قصيدته، يوم ان
جاءت تغلب يقودها عمرو بن كلثوم، حتى جلس إلى الملك. وقال الحارث بن حلِّزة لقومه: إني قد قلت خطبة، فمن قام بها ظفر بحجته، وفَلَج على خصمه. فروّاها ناسًا منهم. فلما قاموا بين يديه لم يرضهم. فحين عَلِمَ أنه لا يقوم بها أحد مقامه. قال لهم: والله إني لأكره أن آتي الملك، فيكلمني من وراء سبعة ستور، وينضح أثري بالماء إذا انصرفت عنه – وذلك لبرص كان به- غير أني لا أرى أحدًا يقوم بها مقامي، وأنا محتملٌ ذلك لكم، فانطلق حتى أتى الملك. فلمَّا نظر إليه عمرو بن كلثوم قال للملك: أهذا يناطقني، وهو لا يطيق صدر راحلته؟ فأجابه الملك حتى أفحمه، وأنشد الحارث قصيدته: « آذنتنا ببينها أسماء»، وهو من وراء سبعة ستور، وهند تسمع. فلمّا سمعت قالت: تالله ما رأيت كاليوم قط رجلًا يقول مثل هذا القول، يكلم من وراء سبعة ستور! 
فقال الملك: ارفعوا سترًا، ودنا، فما زالت تقول، ويرفع ستر فستر، حتى صار مع الملك على مجلسه. ثم أطعمه من جفنته، وأمر ألا ينضح أثره بالماء، وجز نواصي السبعين الذين كانوا في يديه من بكر، ودفعها إلى الحارث، وأمره ألا ينشدَ قصيدته إلا متوضئًا، فلم تزل تلك النواحي في بني يشكر بعد الحارث.

العصر الإسلامي:
—————-
إنشاد الشعر في هذا العصر و كان النبي يحب ان يستمع من الخنساء فقد قَدِمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومها من بني سُليم فأسلمت معهم ، فذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستنشدها ، فيعجبه شعرها ، وكانت تنشده وهو يقول: ” هيه يا خناس ” 
أو يومي بيده .
وخبر إلقَاءِ كعب بن زهير قصيدته البردة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم 
ويُذكَر أن هند بنت عتبة بن ربيعة قصدت سوق عكاظ في الإسلام حين قُتِلَ أهلها في بدر، وقَرَنَت جملها بجملِ الخنساء، وأخذت كل منهما تُعَاظم الأخرى بمصابها وتساجل في الشعر لوعة بلوعة، ورثاء برثاء …
و كان الإلقاء على ظهر الجَمَل.

و شعراء الرسول صلى الله عليه وسلم ينشدونه في مسجِدِه ولم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم حَرجا في ذلك، بل ثبت عنه أنه أجزل العطاء للشعراء.

وقد وُجِدَ في العصر الإسلامي من الشعراء من كان يجود إلقاء الشعر وإنشاده ومن هؤلاء عباد العنبري 
وقد قال الفرزدق لعبّاد يوما : 
«حسنُ إنشادِكَ يُزَيِّنُ الشعرَ في فَهمِي»

العصر العباسي:
—————

و قد قوي اهتمام الخلفاء في الدولة العباسية بالشعر والشعراء فأجزلوا لهم العطايا وأثابوهم على حسن صنيعهم، وازدحم البلاط العباسي بالشعراء يمدحون ويهنئون ويستنجدون …

و بعض الشعراء في هذا العصر من قَعَدَ عن إلقاء شعره لأسباب كثيرة منها: اللكنة والعجمة واللثغة كحال أبي عطاء السندي، وكان جيّد الشعر، وكانت فيه عجمة .

و كثير من الشعراء من كان يُجيدُ إلقاء شعره مثل محمد البيدق وقد كان «أحسن الشُّعَرَاء إنشادًا كَانَ إنشاده أحسن من الغناء»
وقال الأصفهاني: « كان قصيرا فَلُقِّبَ بالبيدق لقصره، 
وكان ينشد هارون أشعار المحدثين وكان أحسن خلق الله إنشادا 
وكان إنشاد محمد البيدق يُطْرِب كما يطرب الغناء» .

وقد كان لأبي تمام أيضا غلام ينشدُ شعره، 
و أنه امتدح المعتصم بسمراء بعد فتح عمورية، و كان صوته أجش
فقالوا : يا أمير المؤمنين، إنَّ معه راويةً حسن النشيد، فأذن له، فأنشده راويته مدحَه له، ولم يذكر القصيدة، فأمر له بدراهم كثيرةٍ» . 
نعم أن الخلفاء لم يستسيغوا تلقي الشعر ممن لا يحسن إنشاده بما يطرب السمع ويحببهم إليه. 
و في عصرنا المعاصر كان شاعر النيل ” حافظ إبراهيم” أعظم شعراء المحافل في عصره! 
فكان في إنشائه للقصائد غالبا يستحضر في نفسه أنه يخاطب آذان المستمعين، ويثير فيهم الطرب الوقتي، ويستدرّ تصفيقهم وهتافهم…
وفي إنشاده يقول الأستاذ أحمد أمين: “كان يؤثر في الجماهير بإلقائه… لقد كان في نبرات صوته، وحسن إجادته في الإلقاء .. ” . 
و يبقي الانشاد هو ميزان الشعر الصوتي بجانب اللغة و العروض و البلاغة و المشاعر و الأخيلة التي هي من المعايير الصادقة و المؤثرة كوحدة فنية دائما .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى