دراسات و مقالات

مطر و سنابل الشعر في كفر الشيخ

السعيد عبد العاطي مبارك

هذا الليل يبدأ
دهر من الظلمات أم هي ليلة جمعت سواد
الكحل والقطران من رهج الفواجع في الدهور!
عيناك تحت عصابة عقدت وساخت في عظام الرأس عقدتها، وأنت مجندل – يا آخر الأسرى…
ولست بمفتدى..
فبلادك انعصفت وسيق هواؤها وترابها سبياً
وهذا الليل يبدأ
تحت جفنيك البلاد تكومت كرتين من ملح الصديد
———-
قال محمد عفيفي مطر :
«لم أطمع في رزق أحد ولم أصارع أحدًا وعشت حياتي مكتفيا لما أقيمه لنفسي».

و يقول الشاعر محمد الشهاوي :
كان لقائي الأول مع عفيفي مطر في العام 1967 أما «سنابل» فقد صدر عددها الأول خلال انعقاد «مؤتمر مصر الأول للأدباء الشبان» عام 1969 –
وقد منعت مجلة سنابل عقاباً لها، ففي أوائل علم 1972 حين نشرت قصيدة أمل دنقل «الكعكة الحجرية» كانت «سنابل» حدثا تاريخيا رائدا وفريدا، ولذا فلا عجب أن تلقى حتفها على أيدي أعداء التفرد والريادة والمغايرة، عموما لقد رحل كل من سعوا لمنعها، وبقي للمجلة أثرها المحفوظ في الذاكرة —
ويري الشاعر محمد الشهاوي – في شهادة له عن تجربة «مطر» الشعرية :
أن «عفيفي مطر» يلتقي مع كبار المتصوفة في أن للكلمات «بعدا ما ورائيا» صادما ومقلقا وغامضا وعميق.. بقدر ما هو: مدهش وشفيف وواضح، كما يلتقي معهم في التحليق عبر رحابات المطلق واللا محدود.. والتحول والتجول في ملكوت خلوات الإشراق متخذا من سريرته وتطلعاته بساطة الطائر به ليل نهار.
و قال القاص سعد الكفراوي :
«عفيفي أحب الطمي والنهر والمخلوقات التي تعيش علي الضفاف، تجلي خلال كتابته لقصيدة مغايرة ونص يخصه، فقد آمن بعالم القرية والتفاصيل الصغيرة لهذا العالم وأرخ لذلك في 18 ديواناً.
و من خلال جماعة ” حوريس ” فقد حظيت كفر الشيخ في عام 1975 م الأدبية في كفر الشيخ اسمها «حوريس» الأدبية كان من
بأعضائها محمد محمد الشهاوي و عفيفي مطر ، وعلي قنديل ، و علي عفيفي ، وإبراهيم قنديل وعدد آخر من مبدعي كفر الشيخ .

السعيد عبد العاطي مبارك – الفايد :
و الخلاصة هنا : أري أن عفيفي مطر لغز يختصر ابجدية الزمن في ربط الحدث بالعمق التراثي في نظرة موجهة الي مسافات القلق يتوشح بالمستحيل كالطائر المطارد لكنه يصدر نوبات مبحوحة يفهمها من ينتظر عودته للواقع بمفهوم و ادراك الوعي الانساني المجرد من الأهواء !!.
يقول عفيفي مطر :
يا ملَكَ الأمطار
هبْني شارتك الفضيَّة
خذني في حاشيةِ الريحِ وعَمِّدْني جنديًّا في البريَّة
علِّمني أسرارَ الماء ..
نصِّبني في أعراسكَ عازفَ قيثارٍ
وامسحْني بالزيتِ الطيِّب واغسلْ قلبي ..

ان كفر الشيخ حكاية عشق و موال جمال و كلمة شعر تضيء درب الحقيقة بين ظلال الريف الجميل و من ثم انجبت لنا أعلام الفكر و الأدب و الدين و الفنون و العلوم ، و من ثم نطالع كل يوم بضعة من المبدعين في شتي المجالات الانسانية !.
و لم لا فقد عاش علي أرضها الكثير من أرباب صناعة الأدب و الشعر و الفنون الجميلة ، و ها هو عاشق كفر الشيخ الشاعر الراحل و المجدد الكبير ( محمد عفيفي مطر ) بين صفحات سنابل و اشراقة و اضاءة كانت له صولات وجولات مهدت الطريق مع النشء الواعد فقد كون فرسان الحلبة مع شيخ الشعراء محمد الشهاوي و كثيرون يدورون في أفلاكهما يحاكون بمشاعرهم نبضات و همسات و بسمات الشعر بكل مذاهبه و مدارسه و أشكاله و ألوانه بداية من المنبع الأصيل حتي أكتملت لنا روافده تجربة استثنائية لها دلالات النص في تجليات جمالية اشراقية تنهض بمسار الانسانية مع الحياة هكذا !!.
نعم ان ” عفيفي مطر” عندما رأيته و قرأته وجدته بحق يعتبر رمزا من رموز الحداثة في شعرنا العربي يسير في خط متوازي مع الشاعر السوري أدونيس كلاهما ينسج قصيدته بملامح رؤيته التي يؤمن بها في اكتشاف للزمن و المكان الذي يتمخض عنه موكب الحياة و من ثم كتبت عنه العديد من المقالات المختلفة التي تؤرخ و تأصل لميلاد شاعر فحل له مواقفه النبيلة وقناعته السياسية و لم يطمع في سلطة و لم ينافق عاش كريما طليقا لا يعترف بالحدود و القيود الا الكلمة التي تنم عن قلب شفوف مبدع لا يؤمن الا بالحب فرسم بقصيدته هموم المواطن و الوطن معا . .
ولكن مطر كغيث يداعب صحراء أرضنا فتنبت من وحي القصيد علامات فارقة تنهض بمشاعر الانسان الفن من جديد !! .
و من قصيدته التي بعنوان ” الأرض القديمة ” يرحل بنا مطر الي سفر التكوين حيث رحلة التاريخ و عبقرية الانسان القديم يجمع لنا شتات غربة المستحيل فيقول منها :
رأيتُها في صكوكِ الإرثِ مكتوبه
سِفْراً من الإنسان والإزميل
والحجرِ
رأيتُها من شقوق الصيفِ
مسكوبه
غاباتِ أيدٍ ترعرعُ في دم الشجرِ
وأَوْجُهاً من حميم الطمي مجلوبه
منسوجة بالفروع الخُضَر والثمرِ
وأعظُماً غالبتْ أكفانَها، انقلبتْ
فراشةً حمراءَ مخضوبه
بالنار والغيم والرَّهَج الدوّارِ في
السفرِ..

نشـــــأته ” 1935 – 2010 م ” :
————————–——-
ولد الشاعر محمد عفيفي مطر في قرية رملة الأنجب في محافظة المنوفية جمهورية مصر العربية ، عام 1935م تخرج في دار المعلمين ، ودرس الفلسفة في كلية الآداب جامعة عين شمس .
وعمل مدرسا في إحدى مدارس محافظة كفر الشيخ ثم أصبح رئس تحرير مجلة “السنابل” التي كانت مساندة للحركة الطلابية مطلع السبعينات .
و من ثم عاش محمد عفيفي مطر حياة متقشفة بعدما اضطر للجوء إلى العراق بعد معارضته اتفاقيات كامب ديفيد .

و بعد رحلة عطاء و اغتراب و منافي ينتهي المطاف بشاعرنا الكبير محمد عفيفي مطر بعودته الي حضن الوطن
و يهجر الوظيفة الرسمية في التعليم ويلجأ إلى زراعة أرضه في قريته مواصلا نظم الشعر والنثر والترجمة.
وافته المنية يوم 27 يونيه 2010 م عن عمر يناهز 75 عاما بعد صراع طويل مع المرض.
وصدرت أعماله الكاملة عن دار الشروق عام 2000 م .

و قد حصل عفيفي مطر على الكثير من الجوائز المحلية والعربية والعالمية من اهمها جائزة العويس الاماراتية على الصعيد العربي وعلى الصعيد المحلي فاز بجائزتي الدولة التشجيعية في الشعر عام 1989 وحصل على التقديرية 2006 م .
الى جانب جوائز من جامعات محلية وحاز جائزة كفافيس اليونانية الى جانب جائزة من جامعة اركنسو الاميركية وجائزة المؤسسة العالمية للشعر في روتردام الهولندية … الخ .
ويعتبر بعض الشعراء والنقاد الشاعر الراحل من أهم شعراء الحداثة العربية إلى جانب الشاعر السوري ادونيس ومن أثرى الأصوات الشعرية العربية والمصرية عموما.

ومع بداية حرب الخليج اتخذ عفيفي مطر مواقف سياسية اودت به الى السجن خصوصا معارضته والمثقفين المصريين لموقف الحكومة المصرية اتجاه الحرب على العراق حيث تم اعتقاله وآخرين عام 1991م اي بعد حصوله على جائزة الدولة التشجيعية بعامين.
وقد عكست تجربة الاعتقال نفسها على شعره فيما بعد وتجلت في ديوان “احتفاليات المومياء المتوحشة”.

ومن ثم ظل مطر شاعر لا ينتمي الا للحقيقة يبحث عن الخلاص في منتهي تجربته الذاتية يحصد الأمل من قمقم الأوجاع يدافع عن حلم العروبة و الاسلام بفكر مستنير في شكل جديد يستوعب الواقع الذي غيرته حركة الحياة !!.

يقول مطر في قصيدة ” نداءات علي الجدران ” :
نداءات على الجدران لم تقشرها الاظافر ولم يغسلها المطر
اختبىء ياقطاراً يهرول في الحلم،
صوتك يخلع ريش النشاز الملون، يسقط بين
الصدى والصدى، وتصنفره شفرات الأظافر،
يدخل أوركسترا الأسر.
فلتختبىء ياقطار يهرول في الحلم،
فالأرض مكشوفة المحطات مفتوحة تحت ضوء السفر
اختبىء فالإقامة مأهولة بوحوش القرابة
والألفة الناعمة.

و يقول مطر في قصيدة بعنوان ” و كنا معا ” :
كنا معا.. بيني وبينك خطوتان
كنت صراخ اللحم تحت السوط حينما
يقطع ما توصله الأرحام
وشهقة الرفض إذا انقطعت مسافة الكلام
بالسيف أو شعائر الإعدام
كنت أحتاج الضوء والظلام
وثغرة تنفذ منها الريح
لليائسين من أرغفة الولاة والقضاة
والخائفين من ملاحقات العسس الليلي
أو وشاية الآذان في الجدران !!


و من ديوان ( ملكوت عبد الله ) من آخر تجارب الشاعر الراحل عفيفي مطر قصيدة بعنوان ” منادمة الكروان ” :
منادمة الكروان
كان عبد الله محموما برعب الليل إذْ يهبط من
مغْزله العالي ويلتف نديفا من سوادِ
المخمل اللين والصمتِ البهيم
رعدة ترفض فيِ أعضائه بالبرد والوقْدة
والطل الخفيف
وشظايا نيزك فرْفر من عمق السديم
تتلوى، تمزع الظلمة بالدهشة..
عبد الله بين الوعد والميعاد:
كانت شظْية من مارجِ الصوتِ وحصباء الصدى
تهويِ من المجهول:
‘لكْ
لكْ.. لك الملك’.
ومجهول الفلكْ
دائر مغزله من برجه العالي،
وعبدالله من رعب وطين
مشرئب السمع واللهفة..
هذيِ الفتنة القاسية الإيقاع
تذرو زغب النوم من الأعشاش
والغفوة من ناعسة الطير على مجْثمها
بين الغصون
كان عبدالله يساءل:
وحش كاسر ‘لكْ لك’ في هذا العماء
ناشرا سطوته؟!
أم ملعب هذا الفضاء
يتلهى فيه بالحيرة؟!
صيد لا يصادْ؟!
أم شهيق أفلتتْ نبرته الأولى قبيل النفخ في
مزمار إسرافيل:
أم نزع وطلْق في رميمي يستعاد؟!
(ملك منْ يا كروان!
نحن أقعينا على مفترق الصرخة والأصداء،
لم نملك سوى الحسرة والزفرة
والجوع المهان
بدد نحن وإرث للمماليك، وهمْ في
ملعب القتل رماد ودمي يبْتاعها من باعها).
أم بشير ‘لكْ لك’ البشري وترتيل النداء
كي يرد الهالكون الملك للمالك أبهى ما يكون
مثلما اسْتوْدعهم إياه من غمْر الحلكْ
طافيا منجدل الدهشة من كاف ونون!!

و نختم له بهذه القصيدة التي حصاد رحلته بين الفرح و الحزن و الصمت :
أنه عفيفي مطرالذي يبحر بنا بين نهر الأوجاع حاملا لنا مشعله الفضي فيقول في قصيدته “هذا الليل” التي كتبها من معتقل طرة عام 1991 م :
هذا الليل يبدأ
دهر من الظلمات أم هي ليلة جمعت سواد
الكحل والقطران من رهج الفواجع في الدهور!
عيناك تحت عصابة عقدت وساخت في
عظام الرأس عقدتها،
وأنت مجندل – يا آخر الأسرى…
ولست بمفتدى..
فبلادك انعصفت وسيق هواؤها وترابها سبياً –
وهذا الليل يبدأ،
تحت جفنيك البلاد تكومت كرتين من ملح الصديد
الليل يبدأ
والشموس شظية البرق الذي يهوي إلى
عينيك من ملكوته العالي،
فتصرخ، لا تغاث بغير أن ينحل وجهك جيفة
تعلو روائحها فتعرف أن هذا الليل يبدأ،
لست تحصي من دقائقه سوى عشر استغاثات
لفجر ضائع تعلو بهن الريح جلجلة
لدمع الله في الآفاق..
هذا الليل يبدأ
فابتدئ موتا لحلمك وابتدع حلما لموتك
أيها الجسد الصبور
الخوف أقسى ما تخاف.. ألم تقل؟!
فابدأ مقام الكشف للرهبوت
وانخل من رمادك، وانكشف عنك،
اصطف الآفاق مما يبدع الرخ الجسور..

هذه كانت أهم سبحات عفيفي مطر مع أنداء الليل ينتظر ميلاد فجر جديد يتوحد الشاعر مع عباءة الشعر من ربوع كفر المبدعين كفر الشعر كفرنا الطيب – كفر الشيخ – حقا ان كفر الشيخ تتنفس شعرا مع عمالقة القصيد منذ صالح الشرنوبي و شاعر البراري و غيرهما كثيرون في حضرة عفيفي مطر و شيخ الشعراء محمد الشهاوي و علي قنديل تحت سماء و ظلال ” سنابل و اشراقة ” دائما .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى