قصة

مدد .. مدد قصة يكتبها عبد السلام هلال

 

 

تجشمت عناء السير نصف ساعة على الأقدام حتى وصلت العزبة مع أصدقائي ، رغم أني لا أحب الموالد لبيت دعوة عبد الرحيم زميل دراستي بالثانوى ، وهو بالمناسبة ابن صاحب المقام والخليفة المنتظر .
أسرعنا الخطى لنلحق المولد من بدايته ، وأيضا للتدفئة من برد الطريق ، ومع ذلك فاتنا كثير من أحداثه .
تهلل وجهه ورحب بنا قائلا :
– أنا مبسوط جدا إنك جيت ، إعمل حسابك العشا مع الشيخ .
– الله يكرمك يا عبده ، يجعله عامر إن شاء الله .
في ساحة كبيرة تشبه ملعب كرة قدم متوسط ، وأمام بيتهم الكبير (الدوار) ، والذي يجاور مقام ومسجد أبو عودة الكبير ، جدهم العاشر كما يقول عبد الرحيم ، ينعقد المولد كل عام ، أسبوع من الإحتفالات ينتهي بالليلة الكبيرة التي نحضرها الآن ، من حسن الحظ أنها ليلة الجمعة ، ما يعني أن غدا إجازة .
إنطلقت مع أصدقائي بالساحة المكتظة برواد المولد من قرى المركز قريبة وبعيدة ، بل ومن محافظات أخرى ، لا أدري كيف أتوا ولا مدى معرفتهم بكرامات أبو عودة الكبير ، أو الشيخ ياسين والد عبد الرحيم .
المولد عالم آخر تماما ، مراجيح وحاوي وبمب ونشان، يجاورهم بائعي فواكه و نصبة شاى وغرزة بلدي في طرف الساحة .
ناس تبيع سندوتشات و حلويات ولعب أطفال ، المعلم حسونه الحلواني حاضر بقوة مع الحلاوة المستوية والعسلية (الآلبندا ).
ولاتنسى لعبة الثلاث ورقات والكوباية والمعلم أمرالله أبو عرفات .
نسير وسط أطفال تجري و تتقاذف بينها كرة شراب ، خلق تضحك بصوت عال ، و شباب يتسكع بالمولد ، وسط بائعين لأشياء لا علاقة للمولد بها . باحثون عن أرزاقهم كل بوسيلته ، والجميع يبحث عن بغيته .
وبحلقة الذكر أمام المقام تكتمل لوحة المولد النموذج ، يجلس الشيخ أبو عودة في صدر الحلقة ، يغطي وجهه بقماش شفاف أبيض والكل يسلم عليه ، معظمهم يقبل يديه و يعتقد فيه كرامات كبيرة .
وهناك بجوار جلسة الشيخ يقف المنشد الأعمى محمد أبو زيدان ، ممسكا بعصاه المعدنية الصفراء الجميلة ، يطرق عليها بخاتم فضي ضخم فيصدر صوتا جميلا ، ينشد على ألحانها بصوت رخيم أبيات شعر مجهولة المؤلف ، فتصبح كأنها ترانيم سوريانية قديمة .
أقف بعيدا أتابع تمايل الذاكرين مع صوت أبو زيدان .
ساعة ثم يقف أبو عودة معلنا إنتهاء الذكر ، ومن ثم تقديم العشاء . يدخل رجال من العزبة ، خلفهم نساء تحملن صواني الطعام ، تضعنه أمام الغرباء بالساحة .
ينطلق الشيخ داخلا المندرة في صدر الدوار ورائه أتباعه ، يشدني عبد الرحيم معه للمندره .
غرفة ضخمة بحجم ثلاث غرف كبيرة ، بها مجلسين بينهما مسافة فارغة ، تم فرش سجادة خضراء قديمة كبيرة ، مرصوص فوقها صواني الطعام ، متخمة بما لذ وطاب .
ووضعت أطايب الطعام كلها أمام الرجل (الشيخ أبو عودة) ليوزعها على الحاضرين . جلست أنا وعبد الرحيم في صدر الجلسة بجوار الشيخ ، بينما يجلس من الناحية الأخرى الشيخ الهادي وباقي جوقة أبو عودة .
راح يحكي مناقب جده الكبير في زهو غريب لامبرر له ،
تنطلق أحيانا ترنيمة من ناحية محمد أبو زيدان ، ينثر رزازا من فمه الممتلئ دوما بالطعام ، يداه تغوصان في صدور الطيور أمامه ، إفتقدت لحظتها موسيقى عصاه الصفراء . امتدت جلسة الطعام فترة كبيرة ، أخذني المشهد. بعيدا عن الطعام ، بالكاد إزدردت بعض اللقيمات وتوقفت .
الكل في تركيز مع فم أبوجودة وصوت أبو زيدان .
قاربت صواني الطعام على الفراغ ، فني ما كان بها من جبال من كل أنواع اللحوم . قضيت باقي الوقت مستمعا بضجر شديد لحديث تاريخي ممل وشعر غريب ردئ ، وأصوأت إرتطام الملاعق بالصحون وبأسنانهم الصفراء المتهرئة بنهم شديد ، يمضغون الطعام بسرعة ، فزاد معدل التجشوأ اللاإرادي ، انقلبت معدتي تماما .
حاولت الإنصراف بعد الأكل ، غمزني عبد الرحيم بأن أبقى لآخذ هديتي ، حاولت التملص منه متعللا بتأخر الوقت ، وعدني بتوصيلي بالمهرة لباب بيتنا .
قبعت وحدي بعيدا بركن الغرفة ، فرصة جيدة لمتابعة باقي الحكاية .
فجأة وجدت من بالقاعة ينتفض واقفا ، فيما دخل أربعة من ضباط الشرطة .
سلموا على الشيخ الذي وقف يستقبلهم بحرارة وأجلسهم بجواره ، فيما ناوله أحدهم خلسة لفافة صغيرة ، أسرع بدسها في جيب جلباب ، مبتسما له بإمتنان .
نادى إبنه الكبير بصوت جهوري، يا ولد جهزوا المائدة العامرة . إنهمك أربعتهم في إلتهام الطعام والحديث مع الشيوخ ، بدا الود واضحا في حديثهم ، حين إنتهوا من الطعام والشراب غادروا متعللين بإكمال باقى الدورية .
بعد خروجهم تقلص العدد إلا من المقربين فقط ، كلهم إنتظار ولهفة .
يجلس أبو عودة وسط الحلقة منتفخ الأوداج ، غابت يده بجيبه لبرهة ، يخرجها وبها بقطعة بنية صغيرة ، ناولها لحسونه والذي يأخذها بشغف وإعجاب ويسأله :
– منين الهدية النميسة دي يا مولانا ؟
– أرزاق يا ابني ، من أبواب الله المفتوحة .
تأملت علاقة الشيخ أبو عودة بحسونه الحلواني ، رغم الفوارق الملحوظة بينهم . أتعجب من زياراته الليلية ، يمر من أمام منزلنا راكبا مهرته الجميلة ، بمواعيد شبه ثابتة ذهابا وعودة ، الحياة تجمع المتناقضات ، أقول دوما لله في خلقه شئون .
حتى الشيخ الهادى وجوده هنا غير طبيعي ، رغم قرابته بأبو عودة ، الفارق كبير بينهما ، فهذا أزهري يخطب الجمعة وله مريدين كثر منهم أنا وأبي ، أما أبو عودة فمحسوب على الصوفية ، بل يعتقد أنه صاحب مقام وكرامات .
تعبت من أفكاري و تفسيراتي ، لذت بالصمت وعدت لمشاهدة السيرك .
وهنا بدأت جلسة غريبة ، منظر جديد علي لم أره قبل الآن .
خفتت الأنوار تماما ، طم الدخان الأزرق المكان لما دارت الجوزة بين الجالسين ، كل يشد منها بقدر طاقتة ، ثم تخفت النار ويتعهدها الحلواني بالتغيير كل لفتين .
انتهت فترة التسخين بعد أول تغيير للنار ، إشتدت المنافسة بين المتشادين ، أشعلها أبو عودة بشدة طويلة رفعت لهب الحجر لأعلى ، إنتشى الحلواني وقام يرقص ، رافعا عقيرته يغنى بصوت ردئ :
– إحنا معلمين إحنا معلمين .
وانبرى أبو زيدان ينشد بصوت رائق هذه المرة ، ويضرب بخاتمه على العصى :
– وأنا طاير زى الريشة ، مع أفخم حتة حشيشة ، محطوطة على أحلى شيشة .
فيما ضج الحضور بالضحك ، ووصل الدور على الشيخ الهادى ليدلى بدلوه ، و بشدة عميقة أقوى من أبو عودة أضاء لهيب الحجر وجهه ، في لقطة إنتشى لها الجميع وأوسعوه ثناءا ، أطربه ذلك فأنشد شعره فيها :
– ثلاثة يمنعن الحذر ، الجوزة والماشة والحجر .
قالها مقهقها ، فعلت ضحكات الجميع بالقاعة .
ضاعت الأصوات في التهليل والتكبير وتهنئة الشيخ على شعره اللوذعي .
استمر دوران الحلواني بالجوزة ، وزادت قوة الشد ومعها بدأوا في أحاديث مليئة بكل ما هو فانتازيا محزنة .
فيما أصبت بذهول مما أرى ، و لم أعهد مثله من قبل ، لم تترك الدهشة مكانا بعقلى إلا طرقته بشدة ، قاومت دهشتي وقلت في نفسي ، هي تجربة جديدة تضاف لي ، وتمنيت أن تنتهي بسرعة وألا أعود إليها أبدا .
صمت الجميع على وقع أصوات خناقة بالخارج ، فجأة دخل عبد الرحيم يشتكي لوالده من أخيه الأكبر ، فكيف يرفض أن يعطيه أي شئ من النذور لكي يوزعها على أصحابه .
أذهلني ما سمعت وشعرت بالخجل .
قال له والده أن يؤجلها للغد ، ذهبت نشوة الجلسة ، غطى الوجوم على وجوه الجالسين ، بدأ البعض يتململ ويحاول المغادرة .
قام الشيخ الهادى محييا الجالسين .
قال لي وهو يغادر الغرفة ، وكأنما تذكر وجودي فجأة :
– أنا لسه فاكر سؤالك عن علامات الساعة ، إطمن يا بني لسه شوية ، ربنا مأذنش لسه .
نظر الجالسين للرجل ببلاهة شديدة ، صمتوا وكأنما على رؤسهم الطير ، أما أنا فقد باغتني بما قال .
السؤال قديم وأنا نسيته ، ولم أتوقع الإجابة في مكان وظرف كهذا ، رددت بلا تفكير :
– ربنا يستر يا مولانا .
– هأخطب الجمعة عندكم في البلد ، أشوفك بعد الصلاة إن شاء الله .
تلكأت بالاجابة برهة ، قلت وكأنني لا أريد الرد :
– إن شاء الله ، يامولانا .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى