دراسات و مقالات

لعبة التشظي في النص الشعري الحديث/شمس جيكور للفياض

سامية البحري

الإهداء : إلى روح فقيد المدرسة الشعرية الحديثة الشاعر الرائد بدر شاكر السياب

كلما قرأتك _يابن جيكور_ أستنشق عطر الوطن والقصيدة !!
أستعير من الشمس خيوطا من ضياء..لأنظم عقدا فريدا..!!
تصدير :
يرى بدر شاكر السياب أن الشعر الحديث طاقة إبداعية مختلفة إذ يعتبر أن الشعر الحر أكثر من اختلاف عدد التفعيلات بين بيت وآخر
و أنه بناء فني جديد و إتجاه واقعي جديد جاء ليسحق الميوعة الرومانتيكية و أدب الأبراج العاجية و جمود الكلاسيكية كما جاء ليسحق الشعر الخطابي الذي إعتاد السياسيون و الإجتماعيون الكتابة به.
________ في سفر الدخول /نبحث في المعنى عن المعنى :
*عند العتبة: شمس جيكور
للعنوان حضور بالغ الأهمية في النص الشعري الحديث ،فهو يختزل النص ويلمح إلى معالمه الكبرى
وفي استقراء العنوان نلاحظ انه ورد مركبا إضافيا يتكون من لفظين:شمس /جيكور
شمس___ مصدر الإضاءة بالنسبة إلى الأرض. .يعطيها الشحنة الحرارية التي تخصبها..ويذهب العتمة ..وهو دال على مكون ضمني هو النهار ..وكاشف لجدلية الليل والنهار ..وهي حكمة إلهية سطرها بمقياس ..
جيكور : إحدى مدن البصرة .وهي تحيل على تربة احتضنت عدة دلالات عبر الاحقاب التاريخية
يأتينا العنوان محملا بالرمز ..متوسلا الإيحاء. .لفتح إمكانات مختلفة لقراءات عديدة ..
وانخراط المركب في سياق الخطاب الشعري يجعل من المفردتين في انخراط مباشرة مع مع خصائص اللغة الشعرية التي تبطن أكثر مما تظهر ..وتخفي أكثر مما تقول..
عند إذن علينا أن نلملم ما تشظى في النص لنكتشف ملامح شمس جيكور وهويته ..
فهل سنعثر على تواشج بين العتبة والمتن..؟؟

عندما يلتقي الكبار :
بين الفياض والسياب وشائج وتناغم واختلاف وائتلاف…
بينهما برزخ..لكن يلتقيان ..
وذاك البرزخ ليس سوى الزمن ..فلكل زمانه..ولكل عصره
وذاك اللقاء كان عند نقطة اسمها العراق ..!!
وبين الزمان والمكان يولد المقصد
ويتجلى الجوى والهيام
وتكون المعشوقة واحدة ..!!
كيف يكون اللقاء ..والمعشوقة واحدة ..؟
وتلك المعشوقة “هم بها موج متصاب”
ما كانت بغيا
لكنها ذهبت معه إلى الضفة الأخرى
تلك هي القصيدة
وتلك هي المعشوقة التي هام بها الشعراء ..
وتسابقوا في سبيل الفوز بودها
فتأتيهم في كامل فتنتها بلا شرط ولا مهر

عندما تعشق القصيدة
تتعرى ….!!
أي صورة تربك العقل والفكر ؟
تتعرى القصيدة في حالة العشق
كأنها المغتسلة عند النواسي وهو يرقبها و يرتل :

نضت عنها القميص لصب ماء
فورد خدها فرط الحياء
وقابلت النسيم وقد تعرت
بمعتدل أرق من الهواء

وفي خضم هذه الصورة الاحتفالية بالقصيدة
تتآلف كل المكونات لتعضد هذه اللوحة المفعمة بالدلالات..
(الرطب /التوت الأسود / داليات الكرم ..)
ويخرج عصفوران ليلتحما بالمشهد بين الفجر وليل مخمور..
فينبثق الدال المركزي للنص برمته وهو “جيكور”
تتناسل منه كل المكونات ..
تلك هي لعبة التشظي في النص الحديث
عندما أتشظى ..أتناسل..من كل شظية تخرج خلية ..في كل خلية صوت متمرد..
هكذا حدثت القصيدة عند الفياض !!
ويشهد على هذا التشظي المتقن ذاك التلاحم بين علوم ومرجعيات مختلفة
ففي قصيدة الفياض يسكن التاريخ جنبا إلى جنب مع الأسطورة
تلتحم الأصوات الشعرية تراتيل سنفونيات قادمة من الزمن البعيد ..
تعاضدها الفلسفة والدين .
فكيف يتجاور كل هذا الزخم دون أن يكون الزلزال؟
وإذا زلزلت القصيدة زلزالها ثمة أفلاطون وأيوب والغفاري والذبيح ويوسف الجميل ..!!
في القصيدة فقط يلتحم الأنبياء بالفلاسفة..
لأن الفاعل هم الشعراء
فالشعراء يتبعهم الأنبياء والحكماء
وشمس جيكور ..نبي رحل ..ولم يمت ..ولن يأفل ابدا ..
لذلك لا رثاء ..لا رثاء..
فحروف الرثاء
لا تسد ثقوب رئة عاشقة
والفحم لا يرسم حمامة بيضاء
ولابد لبرومثيوس أن يفعل فعلته تلك..
برومثيوس سارق النار..أعطى الحضارة لإنسان يتدثر بالوحشية ويعتنق قانون الغاب ..
برومثيوس يتحدى كبير الآلهة زيوس ..فينتهي معلقا في جبال الالمب ينهش كبده نسر عظيم فتنبت من جديد
هكذا كان السياب ..هكذا كان شاعر المضطهدين..رغم الفقر ورغم المرض ..حمل الرسالة بكل صدق ..الرسالة بكل أبعادها الفكرية والاجتماعية
وانتهى وحيدا في غرفة فارغة بعيدا عن وطن عشقه عشقا عذريا
وما نال منه سوى التهميش والاغتراب ..رغم ثقل هذا الوطن حضاريا واقتصاديا
انتهى يصغي إلى أزيز الباب
ويرى وجه أمه المعفر بالتراب وهو يلوح بالرحيل ..
هكذا المخلصون في كل درب
وهكذا العاشقون الذين اعتنقوا الصدق والنقاء والطهر والبراءة
هكذا ينتهي الشعراء في بلاد العرب
وهكذا يقتحمهم الردى
تحت أسواط الغربة والفراغ والضياع ..وصوت الرياح ..وأزيز الباب ..
وتلك الأصوات القادمة من عمق الفجاج..!!
تخرم قلبه الذكريات
وغرام ملتصق بشناشيل البصرة
وهنا نصغي إلى “غربة الروح”
في آهات السياب في مجموعته الشعرية “شناشيل ابنة الجلبي ”

يا غربة الروح في دنيا من الحجر
والثلج والقار والفولاذ والضجر

وتمتزج هذه الآهات مع آهة أخرى مثل الجمر في قصيدة غريب على الخليج

واحسرتاه…فلن أعود إلى العراق !
وهل يعود
من كان تعوزه النقود ؟
وأنت تأكل إذ تجوع؟ وأنت تنفق ما يجود به الكرام على الطعام؟
لتبكين على العراق
فما لديك سوى الدموع !!

وينعطف قلب الفياض الشاعر في هذه المنطقة من الخطاب الشعري ليلهج بالسؤال ،وفي القلب لوعة وفي النفس حسرة
كما كل عراقي كتب بدمائه عن الوطن والغربة والحرمان

بغداد
أين رقة لياليك الألف؟
أتضنين بما فوقها مرهما لجروح؟
…………..
لست غريبا على الخليج…..!!!
وهنا يتراءى الجرح مفتوحا ..عميقا..عمق تاريخ بغداد
بين الشاعرين الفياض والسياب
شمس جيكور للفياض ..الشاعر الذي يتقن فلسفة الجملة الشعرية
يصوغها بأسلوب شعري يتماهى مع مع ما يتطلبه الشعر الحديث من تلوينات في منعرجات النص ..
قصيدة متدثرة بثقافة موسوعية ..ثرية كثراء التربة التي أنتجتها..
كتبت بفكر عميق وقدرة فائقة على توظيف الرموز ..
قصيدة تحتوي شمس جيكور بكل أبعاده. .
لحظة ..بلحظة..
وتغتسل بأنشودة المطر ..

مطر ..مطر..مطر..
في كل قطرة من المطر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد

يا بن جيكور !!
استفق …انهض من غفوتك ..
ثمة قادم يقرأ تفاصيلك بلا عرافة ولا قارئة فنجان ..
هذا ابن اوروك يخلخل أبواب القصيدة ..يهز عرشها.. ويعلمنا أن النفاذ إلى عمق تلك المفارقات وضبط إرهاصات التحولات الكبرى التي ستشهدها القصيدة العربية بات أمرا ضروريا
وهذا الفيض من الفياض قد فاض على الساحة الثقافية
فهل يكون الطوفان؟ ؟
ذاك الطوفان الذي يطهر ..ليبني من جديد ..
كما رسم السياب غارسيا لوكا
في قلبه تنور
النار فيه تطعم الجياع
والماء من جحيمه يفور
طوفانه يطهر الأرض من الشرور

ضبط الفياض على قبر السياب ملتاعا..حزينا..
يرتل آيات ناي أوجعه الأنين. .
واحزن منزل الأقنان حين يفتقد الضياء
تنازعت مع البقاء من غير شهود
في ليل يضيق
كما ضاق بروحك العراق
مطر ..
مطر..
أحببته
أحبك المطر ..
سلاما
حين شيعك وحده المطر !

هكذا تلتقي الأعلام ..وهكذا تتحد الدوال في سبيل خلق جديد ..
وهكذا تتناغم المدارس الأدبية عندما تلتحم الكلمة بالكلمة بعيدا عن الصراعات بكل ألوانها
وبعيدا عن النكران والجحود. .
ثمة شاعر أعطى من روحه للشعر والوطن دون مقابل ..
ثمة شاعر أضاف للأدب العربي وللشعر العربي خاصة
فكان منارة اقتدى بها الكثير ..
بل كان مدرسة لها روادها وأعلامها
وثمة شاعر آخر تتلمذ في تلك المدرسة واعترف بالجميل..
وقرر أن يواصل المشوار بكل ثبات ودراية ومعرفة ..
وأن يمشي على الجمر ..ويتوغل في الواقع بكل تفاصيله ..ليعري ذاك القبح الساكن في أعماقه بطريقة فيها من الجمالية الكثير ..
وإذا كان هيدقير يقول ” أن نتفلسف هو أن نتساءل عما هو خارج النظام”
فإني أقول “أن نشعر ..أن نمارس فعل الشعر هو أن نكسر النظام في ذاته ..لإعادة تركيبه وتنظيمه ..وأن نجرب كل المسالك الممكنة التي تؤدي بنا إلى عالم اللاممكن ..
فالقصيدة لابد أن تتحرك فوق الأرض المتحركة..ولا تخشى السير فوق الدروب الملغمة..
ثمة عوالم تحت تلك المناطق الوعرة لم تكتشف بعد ..
والقصيدة كفيلة بهذا الإنجاز العظيم
أحييك الشاعر الفيلسوف عبد الجبار الفياض
وأنت تحمل على عاتقك كل ثقل التجربة الشعرية الجديدة بكل ملامحها
وتثبت أن الشعر حي لايموت
وأن الشعر شجرة شامخة جذعها ثابت و أغصانها تعانق السماء

القصيدة إمرأة جميلة…متمردة ..
تحب الماء وتعشق الضياء
هكذا تكون ..أو لا تكون
فسبحان الإله وقد براها
كأحسن ما يكون ..!!
___________في سفر الخروج/ لا سبيل إلى الإمساك بالمعنى في النص الشعري :
لا سبيل للحديث عن المعنى الواحد في النص الشعري عامة وفي النص الشعري الحديث بصفة خاصة
فثمة معان متخفية في عمق النص ووراء الظلال ..
والبحث عن “معنى” في النص الإبداعي يجب أن ينطلق من التنكير لا التعريف ..
فمتى عرفنا “المعنى ” قيدنا النص الشعري وأوثقنا قيده ..
في حين أنه فرس جموح يأبى اللجام..
ويعشق الارتحال في بيداء لا تعرف الحد ..
هكذا الشعر ولد ليكون صوت هذا الوجود ..
وهكذا هم الشعراء خلقوا ليطاردوا الفكرة في المطلق. .
بلا جدران ولا أسوار ..
وهكذا القصيدة مخاض شديد لاتعرف متى يأتيك ..
ومتى ينتهي ..!!
والشاعر السومري عبد الجبار الفياض شاعر ينتمي إلى هذه الطبقة من الشعراء ..
يمتلك القدرات الكاملة التي تمكنه من الخوض في النص الشعري الحديث بكل اقتدار ..
يمسك بالآليات الجديدة بحكمة ..
فيصرف الانزياح والصور والتكثيف واللغة والدهشة والغرائبية
والمرجعيات التاريخية والأسطورية والدينية ..تصريفا دقيقا ..
ويحسن توظيف اللغة الشعرية بما يليق بالمقام الذي يتحرك فيه ..

ولغة الشعر منغلقة..عادة..بلا تضاريس..فهي أقرب ما تكون إلى اللغة الكيميائية منها إلى اللغة باعتبارها اللسان المتفق حوله للتواصل بين أفراد المجتمع الواحد ..
وهو ما أثبته في مشروعي النقدي حول القصيدة العمودية المعاصرة
إذ كانت اللغة الشعرية هاجسي الذي دفعني إلى البحث والغوص في أغوارها ..
والنموذج في ذلك مدونة الشاعر العراقي الكبير ضياء تريكو صكر
“فالشعر عنده هو اللغة وقد أضاف إليها من صميم وجدانه وهو توغل في ما وراء اللغة ..
واللغة الشعرية هي عالم منفرد بذاته يقوم على جملة من الخصائص التي تميز الشاعر عن الآخر
وقد انتهيت إلى أنه ثمة لغة وراء اللغة لا يراها إلا من يكتب بمداد من الروح ويسافر في رحم الحرف ويتوغل وراء الكلمات ..
حتى أن النص الشعري يصبح بمثابة الطبقات المرتبة بانتظام ضمن نسيج النص الشعري ..
فهي كحبات العقد الواحد اذا سحبت حبة تناثر ما بقي ..
وانحل العقد ..وفي ذلك نظام محكم ..يؤكد أن الشاعر نظام ماهر ..ومهندس متقن لصنعته الشعرية ..
إذ اللفظ يجاور اللفظ في تناغم عجيب ..تربطه علاقة تركيبية ودلالية بالسابق واللاحق من الملفوظ الشعري في كليته.. ”
( Le discours poétique entre la sémiologie et la chimie de l’esprit / le poète Dhia Seger /Acte2/ALWATeD/par Bahri samia)

ويبقى الرهان على قصيدة النثر
يتطلب قدرا كبيرا من التكوين العلمي الدقيق وإجادة اللغة والقدرة على التوغل في الواقع لترصد كل التفاصيل بعيون ثاقبة إلى جانب كل ذلك يجب اكتساب عدة آليات كالانزياح والتكثيف والدهشة والغرائبية وصناعة الصور الشعرية بطرق جديدة وغير مألوفة والاعتماد على ايقاعها الداخلي إذ لم تعد تستند إلى الإيقاع الخليلي الذي يتأسس على مفهوم البيت الشعري والقافية والروي ووحدة البحر بل كل لحظة من لحظات القصيدة الجديدة وكل تقنية من تقنياتها تصبح عنصرا مشاركا في تشكيل الإيقاع الداخلي ..

والنص الشعري عند الفياض مبحث كبير يستند إلى مرجعيات مختلفة ويقوم على جملة من الأسس الموضوعية والعلمية ويرسم مستقبله بكل إتقان وموضوعية
لذلك نرى أن الفياض يحمل لواء التجربة الشعرية الجديدة بكل ملامحها وهو يعتبر مرجعية هامة في المدرسة الجديدة أخذ يؤسس للواقعية الجديدة في الشعر
تلك الواقعية التي تمتزج بالغرائبية
إذ نرصد الغرائبي/ الفانطاستيكي في الواقع المترهل بأسلوب شعري دقيق ولفظ مبهر وعذوبة تصوير
ويعتبر هذا المزج بين السريالي والواقعي في قصائد الفياض تجاوز لكل المدارس السابقة له في الشعر ..
والجدير بالذكر أنه ينهل منها ويتجاوزها في آن ..
وهنا يكمن الإبداع والابتكار الذي يحمل الاضافة والتجديد
فكل جديد ينشأ وجوبا،في رحم القديم ..
ضمن تلاقح ثقافي فكري بين المدارس الإبداعية الأدبية
وهنا نؤكد أن مدونة عبد الجبار الفياض تفتح بابا بل أبوابا عديدة لمباحث نقدية تطبيقية أكاديمية يمكن أن تكون المنهل الثري للنقاد الأكاديميين
ومن أهم هذه المباحث
مبحث في النص الشعري عند الفياض: المرجعيات والآليات وأفق التوقع
وهو _لعمري_ مبحث غزير يمكن أن يثري المدونة النقدية العربية في قادم الأيام
لكنه يشترط أن يكون الباحث ناقدا أكاديميا ثريا معرفيا يعرف جيدا المدونة النقدية العربية ومنفتحا على المدارس الغربية بمختلف توجهاتها ..
وأدعو من هذا المقام النقاد الأكاديميين العرب إلى ضرورة الخروج من أسوار الجامعة وجدران المكاتب لانصاف هذه التجارب الشعرية الكبيرة بفرعيها الكلاسيكي والمحدث التي تقدمها المدرسة العراقية خاصة
هذه المدرسة الضخمة التي تعد المنجم الثقافي المدجج بالإبداع من القريض إلى النص الشعري الحديث. .
وهذا ليس بالغريب. .فالشعر أصله عراقي،قد شرب من النهرين حتى الثمالة ..وتغذى من الرطب الندي …!!
تحية تقدير تليق بهذا المبدع الشاعر السومري عبد الجبار الفياض
وتحية شامخة للعراق الأبي
القلب النابض للأمة العربية
وتحية تقدير لكل من حمل القلم بصدق ..فكان قلمه في حدة السيف في ساحات الوغى ..!!
شكرا الشاعر الكبير عبد الجبار الفياض على هذا النص الفخم
هكذا يكرم الكبار الكبار! !
على ضفاف القصيدة:_____
تحية إلى رائد القصيدة الحديثة بدر شاكر السياب رحمه الله وأسكنه فراديس جنانه ورزق الشعر الحديث جميل الصبر والسلوان
وهو يتلوى من الأصوات الدخيلة
وقد أصبح مرتعا .. لكل من هب ودب ..
في زمن فوضى الكلام
قمر وبدر :
بالأمس حين مررت بالقصيدة
سمعتك يا بدر
وكنت دورة اسطوانة
دورة ممتدة رنانة
رأيت فيك وجوه الكادحين المعدمين
وسمعتك تنادي
أيتها الوردة البرية
أتقرئين ؟
أنشودة المطر الحزين
المعبد الغريق
الأسلحة والأطفال تشاهدين
وحفار القبور المتعب من الجثث
تهفو نفسي إلى الشناشيل
الشمس أجمل في قصائدك
والظلام ..!!
حتى الظلام في عينيك أجمل
فهو يحتضن الأنين

الناقدة والأستاذة الباحثة سامية البحري
. . . . .

شمسُ جيكور
جيكور
لدجلةَ غنّوا . . .
للنّيلِ رتّلوا . . .
لبردى صافحوا . . .
لكَ
جمعوا خضيلَ الشّعرِ باقةَ حُبّ . . .
أيُّها الصغيرُ بينَ الكبار
ولدتَ بحراً
فسقيتَ فرسانَ ضادِكَ حتى في أيام ٍ
ظمئَ فيها شطُّ العرب . . .
لبستَ ما يلبسون
غنمتَ ما غنِموا
وزدتَّ كيلَ بعير !
. . . . .
غُرفةُ الأنشودةِ الماطرة
كيفَ أباحوا لأنفسِهم أنْ يدخلوها دونَ سجدةِ شِعر ؟
جدرانُها مُشبعةٌ بأنفاسِ قصائدَ
توحّمتْ برطبٍ برحيّ
توتٍ أسودَ . . .
أثداءِ دالياتِ الكَرْم . . .
كانَ لا يدخلُها إلاّ رائحةُ الطّلع . . .
عصفوران يتسافدان . . .
فجرٌ مُتسلّلٌ من قبضةِ ليلٍ مخمور . . .
يتنفسُهُ قصيدةً
همَّ بها موْجٌ مُتصابٍ
ما كانتْ بغيّاً
لكنَّها ذهبتْ معهُ إلى الضّفةِ الأخرى . . .
عندما تَعشق القصيدةُ
تتعرّى . . .
. . . . .
جيكورُ
مرآةُ صباحِه
تقرأُهُ وجهاً مُنبعجاً بألآمِ الطّين
بأوجاعِ نازحٍ
تخرُمُ قلبَهُ الذّكريات . . .
انشطار
بينَ حبٍّ ضائعٍ في بغداد
وغرامٍ مُلتصقٍ بشناشيلِ البصرة . . .
يا ويحَ
مَنْ رفّتْ لهُ شعورُ غوانيه
ما حملتْهُ عطورُ نهودِهنَّ إلى الصّين . . .
أحرقَ زيتَهُ القَرويَّ ثوبٌ قشيب . . .
ما شاءَ أنْ يرى حولَهُ مشقوقَ لوز
نافرَ تفاح
فنناً
أسكرتْهُ ريحُ صِباه . . .
رُجَّ ما كان محبوساً تحتَ خجلِهِ الجنوبيّ
لينتهي كُلُّ شيءٍ إلى لاشيء . . .
لسنَ كصويحباتِ ابنِ أبي ربيعة
يطوقنْهُ قمراً لا يخفى . . .
بغدادُ
أينَ رقةُ لياليكِ الألف ؟
أتضنين بما فوقَها مَرهماً لجروح ؟
. . . . .
إيهٍ
أيُّها العاشقُ ظلَّ نخيلِه . . .
المسافرُ برائحةِ السّعفِ المبتلِّ بحباتِ المطر . . .
لا لعينِكَ أن ْ يُغادرَها دمعُ الرّحيل . . .
تسكبُ حُزنَكَ شعراً
في أعماقِ طقوسٍ ممنوعة . . .
ما كنتَ تعلمُ أن َّ مركبَكَ الذي أبحرَ بلا أشرعة
يعودُ من دونِ ربّانهِ إلى مرفأِ المعقل *. . .
يختصرُ آلامَ الزّمنِ الخائب قافيةً
تيبّست على شفاهٍ
صبغتْها سكرةُ موتٍ في منازلةِ سيفٍ وقصَبة . . .
. . . . .
فيكَ
تناهتْ خيبةُ عشبةٍ بابليّة
حتى طرقتَ بابَ أيوبَ النّبيّ . . .
هممْتَ أنْ تذهبَ للغفاريّ في عزلتِه
مُثقلاً بهمومِ وَطَنٍ
أحببتَهُ فضاءً
لا يحدُّهُ خيالُ افلاطون في مدينتِهِ الفاضلة . . .
لكنّهُ
أسفَاً
لم يمنُنْ عليكَ بقليلٍ من فيضِ رافديْه . . .
كنتَ صبوراً حينَ تَلَّكَ للذّبح
وما فَدّاك . . .
يا لعيونِ السّماءِ ترى
الأبناءَ يعقُّهم آباءٌ طيبون !
. . . . .
لستَ غريباً على الخليج
لكنْ
في نشيجِكَ تأوهاتِ وطن
تُمزّقُهُ رغائبُ ملوكٍ إذٌ يدخلونَ قرية توسّدت أحلامَاً بعينِ عاشق . . .
مَنْ لأنفاسِكَ المتقطّعةِ أنْ تَهَبَ لترابِ أُمِّكَِ سجدتَك الأخيرة ؟
الموتُ بعيداً دَيْنٌ لا يُوفّى . . .
حروفُ الرّثاء
لا تسدُّ ثقوبَ رِئةٍ عاشقة . . .
إنَّها طقوسٌ
تجمعُ غباراً بعدَ عاصفة . . .
وجهاً عن كذبِ أخوةِ البئرِ تشيح
ذلكَ حقّ
لولا أنَّ نزراً منهُ كانَ خفقةَ حبّ
لتغيّرَ مسارَ الألمِ الرّاقدِ على وسادةِ الشّفقةِ في مَشفياتِ الغُربة . . .
لكنَّ فحماًَ لا يرسمُ حمامةً بيضاء !
. . . . .
أوّاه
أبا غيْلان
اقتربَ ألم ُ برومثيوس من ذروتِه في روحِكَ المُتعبة
لم يسمعْكَ إلاّ الخليجُ صدىً
يبحثُ عن أُذن . . .
تنزعُ حزنَكَ الداكنَ على ساحلِهِ مرثيّةً
تُبكيكَ
ما بقيَ بيتُكَ الكبيرُُ يغرقُ في ظلام
أمسيتَ نسياً منسيّا
بجوارِ ابنِ سيرين الذي غمّهُ حلمُكَ المقبورُ معك . . .
. . . . .
انحدرتْ من رُبى جيكور شمس
تشربُ غروبَها الأخير . . .
أيُّها الرّاحلُ عبرَ صبرِ الأنبياء
أكذا ؟
في لحظةٍ
يتكوّرُ فيها العراقُ زفرةً
بعدَ شهقةِ احتضار . . .
هلآّ توانيتْ
فلَكَ شناشيلُ
قصائدُ
أمانٍ تحتَ شُرفةِ المطر . . .
أراكَ تُوصيها ليدٍ بحرقةِ قلبِ أُمِّ موسى تحتضنُ العراق !
. . . . .
وا حُزنَ منزلِ الأقنانِ حينَ يفتقدُ الضّياء
تنازعتَ مع البَقاء من غير شهود
في ليلٍ يَضيق
كما ضاقَ بروحِكَ العراق . . .
مطر . . .
مطر . . .
أحببتُهُ
أحبّكَ المطر . . .
سلاماً
حينَ شيّعَكَ وحدَهُ المطر !

عبد الجبار الفياض
كانون اول/ 2018

*إحدى مدن البصرة وميناؤها الأول.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى