قصة

لحظات حاسمة

عروبة شنكان

 

لا ترتكز علي، وأنت تتابع زخات الإعلام الساخطة فلو بكيت لاهتز العالم، هي مدينتي التي تُدمر! بهذه العبارات المؤثرة حضنته وهي على وشك الإنهيار، كم كانت بحاجة لتتلو بعض عبارات الوفاء قبل رحيل صديقها إلى فرنسة، بينما كانت أرتال الجيش الوطني تخترق شوارع بلدتها.

نظرت في عينيه ملياً، كانت تفيضان بالدمع، لم يقو على الحديث معها، فالموقف صعب للغاية، عليه أن يغادر موعد طائرته يقترب، بينما هي تزداد اقتراباً منه وفي عينيها شرارة غاضبة تريد أن تصرخ احتجاجاً، لكنها آثرت الصمت، ولملمة شهقاتها الغاضبة ريثما تقو على انتزاع يديها من بين يديه !

سرعان ماتدخل أخيها، وتدارك كم الإحراج، حاول معانقتها، وتقبيل وجنتيها، تلمس يديها الدافئتين كما صوتها الهادئ متزن النبرات، رنان المخارج.سرعان مافهمت يد أخيها، لملمت أشلاء يئسها لتبتعد رويداً رويداً عن صديقها، وسط أجواء عاصفة من تبادل نظرات المودة والاحترام.

تدخل عامل الوقت في إنهاء لقائها برفيق الطفولة الذي أحبته بكل جوارحها ذات يوم غائم، كانا في قمة السعادة، فوق صهوة جياديهما، كانت دائماً السباقة التي يخشى منافستها، وكان المقرب من قلبها الذي تخشى أن تفقده في لحظة غدر تعصف بعلاقتهما!

مرت الأيام، لتكبر وتطول ضفيرتها التي أحبها، وابتعد عن مساحتها، نسيت بأنها صديقته، كما نسيت لون عينيه!صارعت آلاماً، وعايشت أحزاناً لتلتقي به في مطلع الثلاثينات من عمرها، ليفتح في مخيلتها ذكريات الطفولة، والابتسامات الجريئة والنظرات البريئة.

كانت القوات الكردية والأمريكية على وشك أن تدخل مدينتها، الغافية على ضفاف نهر ممتد من السماء إلى الارض كما كانت تصفها في مواضيع الإنشاء المدرسية، كانت زميلاتها تستمتعن بصوتها وهي تقرأ تعابيرها الأدبية العذبة في وصف طبيعتها وتلون فصولها .

تألمت كثيراً، كان يُدرك بأن ابتسامتها مزيفة، فهي تخفي خلفها جرح كبير، لاتحب أن تبوح به، كما كان يدرك لو أنه استدرجها للكلام، لتوترت علاقات الشمس بالقمر، تفهم مشاعرها تجاه مدينتها التي عشقتها بكل عنف، حتى عاندت العالم بأسره لتنذوي وتسطر ذكرياتها فيها التي هو جزء منها!

كانت زيارته قصيرة، استطلع فيها أجواء المدينة، دوّن ما استطاع من أنباء، ثم غادر وكله إصرار على أن يقدم للعالم كل ماشاهده عن مدينتها بكل صدق منحته إياه عينيها، بكل شفافية شعر بها بينما كان يمسح دمعها الثائر على اجتياح مدينتها.

لم تنتظر طويلاُ لتجني ثمار وفائها لصديقها الذي غادر للأراضي الفرنسية التي أعلنت عدم التدخل في مساحات مدينتها التي عشقتها حد العزلة وكرست قلمها لوصف روعة الحياة فيها.ما إن حل مساء تشرين بهدوء رزين، بدأت تلوح في الأفق بعض السحب الماطرة، التي تضفي على الأجواء بعض من البرودة الرطبة، شعرت بشيء منها يسري في بدنها، تناولت شالها البني من خزانتها الصغيرة التي كانت فرغت من ترتيبها الليلة السابقة، كانت تشعر بكم من الحزن بدده تفكيرها بكيفية ترتيب الملابس الخريفية من سترات وبناطلين.

توجهت إلى الصالة لمتابعة مستجدات الساعة من الأخبار، كانت طلائع الجيوش التركية تبدأ بدخول شمال البلاد مستهدفة مدينتها الجميلة بينما فرنسا مصرة على عدم التدخل في مساحات عشقها الأبدي!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى