قصة

كبرياء الورد

عروبة شنكان

كم كنت أُحِبُ جمع الورد الأحمر من حديقة منزلنا المجاورة، لأصنع منه باقة جميلة تسيجها يدي معلمتي التي شارفت على الابتعاد عن مدرستي، بينما صدى صوتها بين القاعات يرن بوقع خاص مميز..تلك النحيلة التي كرست حياتها لأجل أن تعلم الأجيال فنون الكتابة، وحجم الكلمة، وأهمية العبارات الرنانة. كان حارس الحديقة واقفاً يتأمل خطوات تلامذة المدارس، و سيجارةً رفيعة تئن بين شفاهه المتشققة من آلام يومياته المتعبة! عندما اِقتربت لأقطع ورود الربيع بشكل عشوائي، الأمر الذي أدمى أصابيع مرات عديدة..وردة وردتين وثلاث..وردة صفراء لابأس شذاها يغري بأن أُحررها من حِراسة صديقاتها الورود، كانت باسقة طويلة، تمتد رافعة رأسها بكل كبرياء، لدى سحبها من جذورها شعرت بقشعريرة كبيرة، إنها متمسكة بجذرها، مستوطنة باطن الأرض بكل عِنادٍ وكبرياء، شعرت بغصة كبيرة، لأنني أردت هذه الوردة الصفراء هدية لمعلمتي برفقة الورد الاحمر، إنها تحب اللون الأصفر كثيراً، لكنني فشلت، فشلت في رسم ابتسامة فوق شفاهها في يوم عيدها، فشلت في تضميد بعض من جراحها التي تئن سنوات طويلة إثر فقدها ابنها الذي تم استهدافه إثر انتفاضة شارك بها في مرتفعات الجولان إثر قرار غاشم بضمه لتبعية لا جنسية لها..ابتعدت بينما حارس الحديقة همّ بالاقتراب من سورها، ركضت مبتعدة عنه وأناملي المدماة أدمعت عيني اللتين حفظتا شكل الوردة الصفراء بكل تفاصيلها لأحكيها لمعلمتي .. دخلت المدرسة! لأُفاجأ بصمت غير معهود، كان صدى خطواتي يتردد في الزوايا، وأنا اقترب من صفي الذي أحببته لأجل معلمتي، كانت المقاعد غارقةً بصمت مُبهم حزين، وطاولة المعملة نِبال تغطيها باقة من الزهور الحمراء والصفراء والبيضاء! لكن الكرسي فارغٌ تماماً! تقدمت بفزع كبير نحو الطاولة ورميت بورودي الجميلة فوقها..
دخلت المديرة وحزن كبير يكسو ملامح وجهها:
لقد غادرتنا المعلمة جليلة، لترقد إلى حيث روح ابنهاـ ذهلت وأنا أسمتع إلى النبأ الفاجعة كما زميلاتي وزملائي في قاعة الصف ـ بينما الورود التي كانت تتنافس لتحط بين يدي معلمتي، حطت بكبريائها حزينة ذابلةً، مُستسلمة للنبأ الفاجعة..اِغرورقت عيوننا بالدمع، كما مديرة المدرسة تلك السنديانة التي كنا نحسبها قوية لاتُكسر، تقف عند عنادها أقوى عواصف العالم مرتدةً امام صوتها..
انتهى الدوام المدرسي، كان يوماً كئيباً، دوت فيه وسائل الإعلام بتصريحات منددة إثر أرائهم زعزعة أمن وسيادة الجولان، أمام كل تصريح كانت تلك الوردة الصفراء تزداد علواً أمامي، بينما يتواصل زحف زهور الورد الاحمر تباعاً فوق ضريح معملتنا في يوم المعلم والام واول أيام الربيع!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى