قصة

قهر ممنهج:

منى احمد البريكي

 

كان الممرض ينظر بعينين مستذأبتين إلى الحداد المسكين الذي يقعي قبالته واجما وهو يرتعش كمدا على زوجته المرمية أمامه فوق سرير المستوصف ذي الحشية البيضاء المهترئة التي تخضبت بحمرة قانية احتفاء بوأد حلم أم ليست سوى رقما في سجلات هذه البلدة المنسية.
فجأة صرخ ملء أوداجه ولعاب كريه يتطاير من فيه
:”كيف؟ألم تنهى عن كثرة العيال؟ لعنة الله على رغباتك القميئة التي كادت أن تودي بهذه المسكينة إلى حتفها!”
غمغم الزوج مستعطفا:”أرجوك أنقذها وأعدك أن لا أقربها ثانية.لن أكتوي بتنور حبها ولن أشتهي فاكهة أنوثتها بعد اليوم.
سأغمض عيني عن زرقة عيونها الآسرة ولن ألمس ضفائر شعرها بلون الشرر المتطاير من الحديد المذاب تحت مطرقتي.
لايهمني سوى أن تعيش وصغيرها يا سيدي. لطالما انتظرناه كما ينتظر الصائم في نهار قائظ كأس ماء بارد عند الغروب.”
سكت فرحات حين رأى الطبيب يهرول إلى حبيبته ويسدل الستار عليها ليفحصها.
شرد بذهنه خارجا وهو يتذكر كيف فاجأها المخاض البارحة وبحث عن سيارة تنقلها بلا جدوى فاضطر لحملها على عربة يجرها حمار جاره الأشهب.كانت الطريق الترابية ضيقة إلى حد شعوره بأشواك السدر المنتشر على جانبي الطريق تخزه بين حين وآخر وهو يلهب مؤخرة الحيوان بسوطه ليسرع أكثر ويهش الكلاب الضالة التي تعيق سيره ونباحها ينافس صراخ مسعودة التي كانت تتألم وتصدر أصواتا كالعواء تارة وطورا تهمس متضرعة إلى الله وكان يود لو يطوي ظلمة الليل طيا فلا تشرق عليهما الشمس إلا وقد تحقق حلما انتظراه منذ عشر سنين.
كان يتألم لآلامها وتمر بذاكرته أول مرة رآها وهي تمتطي شاحنة تقل عاملات الفلاحة وقد وقفن متلاصقات لكثرتهن.يومها لم يتسن له أن يعرف عددهن لأنه بقي مأخوذا بسماحة وجهها وقوامها المرسوم بعناية إلهية كشجرة السرو الملاصقة لبيته الريفي المتواضع.
ولم يعده من شروده غير صوت الطبيب وهو يخاطبه بعد ساعات طوال كانت دهرا؛دون أن يرف له جفن قائلا:
“يؤسفني أن أعلمك اننا لم نستطع إنقاذ المولود وأن حالة الأم حرجة.”
غامت الدنيا في عينيه وارتعشت أوصاله كعصفور نضبت كسور جناحيه من الدم.شعر بأنه يتأرجح كورقة في مهب حزنه الطافح وسنابل فرحته قد اقتلعها الخبر كصاعقة مدوية فصارت هشيما وأحس بأنه قد استحال رمادا يبابا واصطفت بقلبه كل الآمال وانكسارات سنين عجاف وتسارعت بنبضه الخائر كمدا لتزفه قربانا للغبن والقهر وعجز يكبله منذ أن شب عن الطوق فقيرا.
شعر بأوار حارق يشب في كبده وارتفع نشيج الفقد معلنا ثكل أب اختطف منه القدر نجما ظنه سراجا لبقية أيام العمر وسندا لقامته التي انحنت تحت وطأة الخصاصة والعمل الشاق.
لم يدر كم بقي ذاهلا عن نفسه ومن حوله ولم يعد إلى رشده إلا حين اقتربت منه ممرضة وبين يديها “كرذونة”مواد غذائية وهي تضعها بجانبه وتقول له:”لا يسمح لك بالبقاء هنا الليلة عليك أن تعود إلى بيتك ولا تنس إمضاء ورق الاستلام عند عون الإستقبال هناك.”
أراد أن يحتج ويدافع ويندد بما يحدث معه لكن الكلمات انحبست بحنجرته وهو يحدث نفسه:”ماذا أفعل بمعونة لطالما كنت بحاجتها اليوم وقد فقدت ابني قبل أن أراه وزوجتي تصارع من أجل البقاء؟”
وحين فتح العلبة ليرمي ما بداخلها هاله ما رأى! إنه حلم حياته المؤود مسجى داخلها كملاك نائم.
صاح صيحة هزت أركان المستوصف وسقط أرضا.
سرعان ما هرول إليه الحاضرون متسائلين
اقترب منه أحدهم وقال:”لقد أخذ بجريرة ممارسة فعل المواطنة الممنوع من الصرف. إنه ميت.”

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى