دراسات و مقالات

قصيدة الحمَّى … !! ” المتنبي – غازي القصيبي – علي أحمد باكثير “


السعيد عبد العاطي مبارك – الفايد 

أَقَمتُ بِأَرضِ مِصرَ فَلا وَرائـي ” ” تَخُبُّ بِـيَ المَطِـيُّ وَلا أَمامـي

وَمَلَّنِيَ الفِـراشُ وَكـانَ جَنبـي ” ” يَمَـلُّ لِقـاءَهُ فـي كُـلِّ عــام
ِ
قَليـلٌ عائِـدي سَقِـمٌ فُــؤادي ” ” كَثيرٌ حاسِـدي صَعـبٌ مَرامـي

عَليـلُ الجِسـمِ مُمتَنِـعُ القِـيـامِ ” ” شَديدُ السُكرِ مِـن غَيـرِ المُـدامِ
و
َزائِرَتـي كَـأَنَّ بِهـا حَـيـاءً ” ” فَلَيـسَ تَـزورُ إِلّا فـي الظَـلامِ

” المتنبي ” 

و هام في مرافئ الجنون
كسندباد أحمق مأفون
و عاد بالحمى و بالشجون
محملا بصفقة المغبون

” د .غازي القصيبي ” 
—–

وها أنا اليوم محموم على وهج من حر سقمي ورأسي بالصداع بلي

وقد ألمت بي الحمى الشديدة يذ كيها الصداع ومنك البرء مسؤول

دعيني أيها الحمى أجيب أخًا .. ثغر الزمان به شنيب

” علي أحمد باكثير ” 
—————-

وعن جابر بن عبد الله : ” أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم السائب أو أم المسيب ، فقال : مالك يا أم السائب أويا أم المسيب تزفزفين ؟ قالت : الحمى لا بارك الله فيها فقال:
” لا تسبي الحمى ، فإنها تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد “صحيح أخرجه مسلم .

و قال الشاعر مطران عن الحمي : 
وأنت ما أنت في الحمى حسبا وأنت من أنت بالحجى فضلا

فقصيدة (الحمى ) في شعرنا العربي تحتاج منا الي إجراء بعدة مقارنة و موازنة أدبية كأنموذج لثلاثة الحمى عند المتنبي و د. غازي القصيبي ، وعلي أحمد باكثير ، و مطران و نسيب عريضة وخليل شيبوب ولويس عوض … و غيرهم كثيرون . 
فقصيدة (الحمى ) جاءت حقيقة لمرض هؤلاء الشعراء الثلاثة بالحمى ، فكانوا فرسان الحمي الذين سجلوا خلاصة تباريحهم بتلقائية في صدق !! . 
فكما أصابت من قبل المتنبي ، فنزلت بغازي القصيبي ، و من بعده علي أحمد باكثير ، و غيرهم مما لم تشملهم هذه التغريدة الشعرية الآن .
و حري بنا بأن ينظر في ديوان الشعر العربي للتنقيب عن هذه الحالات التي تترجم لنا ظاهرة الحمي في شعرنا العربي و مدي التعبير باللفظ و المعني و الصورة و الايقاعات التي تلائم الحالة النفسية و العضوية و الشع ور بالغربة و العزلة ، بل و بخيبة العشق أيضا .

فالشاعر هو أقدر الناس في وصف لحظات الفرح و الحزن معا كالفنان الذي يعبر و يجسد و يرسم و يلون و الموسيقي الذي يبوح بأشجانه فيهز الوجدان ، و عندما نتأمل ظاهرة ( الحمي ) كحالة مرضية ووجع و اغتراب و عزلة تصيب الشاعر ماديا و معنويا فيستخلص تجربته الذاتية بصدق يؤثر فينا بكل مفرداته و صوره و أخيلته و ايقاعاته الحزينة . 
و لم لا فقد عرف شعرنا العربي عدة قصائد في الحمي تعد من عيون هذا اللون الذي يعكس لنا حالة الشعر التي تلازمه نفسيا من وراء هذا النصب فيؤرخ لنا ما يدور بخلده لحظة بلحظة حيث انبعثات الرعشة و القسوة و الحرمان … 
منذ عهد طويل عرفت قصيدة الحمي للمتنبي كبداية ثم في شعرنا المعاصر توقفت مع قصيدة الدكتور غازي القصيبي الشاعر السعودي الرائع و اخيرا كانت ثلاثية احمد باكثير عن الحمي و حالة المحموم كمن تنتابه ألما و تحسرا و غربة و عشقا فيصاب بـــ ( الحمي ) فيصف لنا خلاصة تجربته في بوح يستخلص لنا منتهي تعلقه بهذا المرض العضال الذي يستفحل و ينال منه فيسجل تباريحه مع ارتفاع الحرارة و هو مريض و غريب و عاشق مادي و معنوي يتخطي بمشاعره كل هذه الجوانب ليترك لنا قصيدة ذات مقومات فنية أصيلة و سبك جيد مكتمل الأصول و الأركان .

المتنبي و الحمى :
—————- 
فالمتنبي كان يقيم في مصر وقت إصابته بالحمى، وهو يعزو مرضه إلى الحصار الذي ضربه حوله كافور الإخشيدي، وهو في الوقت الذي كان يخطط فيه للهروب من مصر تصيبه الحمى فتقعده عن تنفيذ ما يخطط. 
إن عدم الاحتفاء به في مصر على النحو الذي كان يتمناه عندما قدم إلى كافور، وتلاعب كافور به والتضييق عليه في الحياة وفي الأحلام كذلك، جلب له المرض الأمر الذي ألزمه الفراش رغما عنه، هذا الفراش الذي لم يكن يلجأ إليه إلا مرة كل عام لأنه كان دائما على سفر وترحال في سبيل الشرف والمجد . 
كل هذا البواعث جعلته يكره الإقامة في أرض مصر، وراح يندب حظه العاثر ، ويفكر في الرحيل عنها .

أليس هو القائل ؟! :
أقمت بأرض مصر فلا ورائي تخب بيَ المطي ولا أمامي 
وملني الفراش وكان جنبي يمل لقاءه في كل عام 
قليل عائدي سقم فؤادي كثير حاسدي صعب مرامي
عليل الجسم ممتنع القيام شديد السكر من غير المدامِ
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلامِ

وقد حول أبو الطيب المتنبي ” الحمى ” من مجرد حالة طبية مرضية إلى كائن حي في أذهان الناس، إذ شبهها بفتاة حييّة تريد زيارة حبيبها فلا …

غازي القصيبي و الحمى : 
—————————— 
و قد كتب القصيبي قصيدة الحمي بالرياض عام 1979 م حيث يصف لنا القشعريرة و الرعشة التي تنتابه و حالة السخونية و الاغماء و الاحساس بالموت و النهاية فيريد يسمع أحاديث النفس التي تساوره فيقول :

أحس بالرعشة تعتريني
و الموت يسترسل في وتيني
و موجة الإغماء تحتويني
فقربي مني و لامسيني
مري بكفيك على جبيني
و قبل أن أرقد حدثيني
* * *
قصي علي قصة السنين
حكاية المشرد المسكين
طوف عبر قفره الضنين
يشرب من سرابه الخؤون
و يشتكي النجود للحزون
و جرب الغربة في السفين
و هام في مرافئ الجنون
كسندباد أحمق مأفون
و عاد بالحمى و بالشجون
محملا بصفقة المغبون
* * *
هاتي كتاب الشعر أنشديني
قصيدة رائعة الرنين
كتبتها في زمن الفتون
أيام كنت ساذج العيون
قبل انتحار الوهم في اليقين
و غضبة الكهل على الجنين
و صحوتي في الواقع الحزين
هل تذكرين الان؟..ذكريني
براءتي في سالف القرون

علي أحمد باكثير و الحمى : 
—————————– 
على عكس ما وجدنا 
أجل لقد وجد علي أحمد باكثير الذي كان يرى في زيارة مصر حلما من أحلامه التي يود تحقيقها بعد شفائه من الحمى.

و من ثم فقد كتب علي أحمد باكثير (1907 ـ 1969) عدة قصائد ومقطوعات عن الحمى منها: 
“في حال مرض”، “تضرع على فراش الألم”، “ألمت بي الحمى”، “دعيني أيها الحمى”، “الروح الحنون” . 
و القصيدة جاءت حقيقة مرض الشاعر بالحمى كما أصابت من قبل المتنبي و غازي القصيبي أيضا .

و علي أية حال فقد أصيب باكثير بالحمى في حياته أكثر من مرة، و هو بحضر موت اليمن ، وكان عمره لم يتعد تسعة عشر عاما كما يقول في قصيدته التي بعنوان ” دعيني أيها الحمى ” :

أكاد ولم أجز تسعا وعشرا من الأعوام من هم أشيبُ

و يعبر لنا باكثير عن حالته المتردية قائلا :
أصبحت لا أستطيع العير أركبه وقد أكون وعاتي الخيل مركوبي
وأصبح المشي مطلوبي وكنت وما قوى المدافع إلا دون مطلوبي 
كأنما مسني عما بليت به سقم (ابن متى) تلاه ضرُّ (أيوبِ )

و يقول باكثير وقد (مرض بالحمى والصداع في عدن) مخاطبًا صديقَه الأثير محمد علي لقمان:

حبست الدمع حتى جاء خلي ليمسحه ففاض من الجفونِ
فما مبكاي من جزع ولكن كما يشكو الخدين إلى الخدينِ
فدم يا سيدي لقمان طبا وسلوى للعليل وللحزينِ
فكم فرجت من همي وضيقي وكم كفكفت من دمعي السخينِ

” مع قصيدة الحمي للمتنبي ” : 
===============
و نختم بقصيدة الحمي للمتنبي حيث صال وجال وصفا للحمي كمرض و تعب و غربة وفراق ديار وحبيب و جهاد فجاءت قصيدته من عيون الشعر تفوق تعريفات الطب الحديث لهذه الحالة التي تسكنه و تسيطر علي مشاعره فيقول المتنبي :

مَلومُكُمـا يَجِـلُّ عَـنِ الـمَـلامِ ” ” وَوَقـعُ فَعالِـهِ فَـوقَ الـكَـلامِ

ذَرانـي وَالفَـلاةَ بِـلا دَلـيـلٍ ” ” وَوَجهـي وَالهَجيـرَ بِـلا لِثـام
ِ
فَإِنّـي أَستَريـحُ بِــذا وَهَــذا ” ” وَأَتعَـبُ بِالإِنـاخَـةِ وَالمُـقـام
ِ
عُيونُ رَواحِلي إِن حُرتُ عَينـي ” ” وَكُـلُّ بُغـامِ رازِحَـةٍ بُغـامـي

فَقَـد أَرِدُ المِيـاهَ بِغَيـرِ هــادٍ ” ” سِوى عَدِّي لَهـا بَـرقَ الغَمـام
ِ
يُـذِمُّ لِمُهجَتـي رَبّـي وَسَيفـي ” ” إِذا اِحتاجَ الوَحيـدُ إِلـى الذِمـام
ِ
وَلا أُمسي لِأَهـلِ البُخـلِ ضَيفًـا ” ” وَلَيسَ قِرىً سِـوى مُـخِّ النِعـام
ِ
فَلَمّـا صـارَ وُدُّ النـاسِ خِـبًّـا ” ” جَزَيـتُ عَلـى اِبتِسـامٍ بِاِبتِسـام
ِ
وَصِرتُ أَشُـكُّ فيمَـن أَصطَفيـهِ ” ” لِعِلمـي أَنَّـهُ بَـعـضُ الأَنــام
ِ
يُحِبُّ العاقِلونَ عَلـى التَصافـي ” ” وَحُبُّ الجاهِليـنَ عَلـى الوَسـام
ِ
وَآنَفُ مِن أَخـي لِأَبـي وَأُمّـي ” ” إِذا ما لَـم أَجِـدهُ مِـنَ الكِـرام
ِ
أَرى الأَجـدادَ تَغلِبُهـا جميـعًـا ” ” عَلـى الأَولادِ أَخـلاقُ اللِـئـام
ِ
وَلَستُ بِقانِـعٍ مِـن كُـلِّ فَضـلٍ ” ” بِـأَن أُعـزى إِلـى جَـدٍّ هُمـام
ِ
عَجِبـتُ لِمَـن لَـهُ قَـدٌّ وَحَـدٌّ ” ” وَيَنبـو نَبـوَةَ القَضِـمِ الكَـهـامِ

وَمَن يَجِدُ الطَريقَ إِلـى المَعالـي ” ” فَـلا يَـذَرُ المَطِـيَّ بِـلا سَنـام
ِ
وَلَم أَرَ في عُيوبِ النـاسِ شَيئًـا ” ” كَنَقصِ القادِريـنَ عَلـى التَمـام
ِ
أَقَمتُ بِأَرضِ مِصرَ فَلا وَرائـي ” ” تَخُبُّ بِـيَ المَطِـيُّ وَلا أَمامـي

وَمَلَّنِيَ الفِـراشُ وَكـانَ جَنبـي ” ” يَمَـلُّ لِقـاءَهُ فـي كُـلِّ عــام
ِ
قَليـلٌ عائِـدي سَقِـمٌ فُــؤادي ” ” كَثيرٌ حاسِـدي صَعـبٌ مَرامـي

عَليـلُ الجِسـمِ مُمتَنِـعُ القِـيـامِ ” ” شَديدُ السُكرِ مِـن غَيـرِ المُـدامِ
و
َزائِرَتـي كَـأَنَّ بِهـا حَـيـاءً ” ” فَلَيـسَ تَـزورُ إِلّا فـي الظَـلامِ

بَذَلتُ لَها المَطـارِفَ وَالحَشايـا ” ” فَعافَتهـا وَباتَـت فـي عِظامـي

يَضيقُ الجِلدُ عَن نَفسـي وَعَنهـا ” ” فَتوسِـعُـهُ بِـأَنـواعِ السِـقـام
ِ
إِذا مـا فارَقَتـنـي غَسَّلَتـنـي ” ” كَأَنّـا عاكِفـانِ عَلـى حَــرام
ِ
كَأَنَّ الصُبـحَ يَطرُدُهـا فَتَجـري ” ” مَدامِعُـهـا بِأَربَـعَـةٍ سِـجـام
ِ
أُراقِبُ وَقتَها مِـن غَيـرِ شَـوقٍ ” ” مُراقَبَـةَ المَشـوقِ المُستَـهـام
ِ
وَيَصدُقُ وَعدُها وَالصِـدقُ شَـرٌّ ” ” إِذا أَلقاكَ فـي الكُـرَبِ العِظـام
ِ
أَبِنتَ الدَهـرِ عِنـدي كُـلُّ بِنـتٍ ” ” فَكَيفَ وَصَلتِ أَنتِ مِـنَ الزِحـام
ِ
جَرَحتِ مُجَرَّحًا لَـم يَبـقَ فيـهِ ” ” مَكـانٌ لِلسُيـوفِ وَلا السِـهـامِ

أَلا يا لَيتَ شَعـرَ يَـدي أَتُمسـي ” ” تَصَـرَّفُ فـي عِنـانٍ أَو زِمـام
ِ
وَهَل أَرمي هَـوايَ بِراقِصـاتٍ ” ” مُـحَـلّاةِ المَـقـاوِدِ بِالـلُـغـام
ِ
فَرُبَّتَما شَفَيـتُ غَليـلَ صَـدري ” ” بِسَـيـرٍ أَو قَـنـاةٍ أَو حُـسـام
ِ
وَضاقَت خُطَّةٌ فَخَلَصـتُ مِنهـا ” ” خَلاصَ الخَمرِ مِن نَسـجِ الفِـدام
ِ
وَفارَقـتُ الحَبيـبَ بِــلا وَداعٍ ” ” وَوَدَّعـتُ البِـلادَ بِـلا سَــلامِ

يَقولُ لي الطَبيـبُ أَكَلـتَ شَيئًـا ” ” وَداؤُكَ فـي شَرابِـكَ وَالطَعـامِ

وَمـا فـي طِبِّـهِ أَنّـي جَـوادٌ ” ” أَضَـرَّ بِجِسمِـهِ طـولُ الجِمـام
ِ
تَعَـوَّدَ أَن يُغَبِّـرَ فـي السَرايـا ” ” وَيَدخُـلَ مِـن قَتـامِ فـي قَتـام
ِ
فَأُمسِـكَ لا يُطـالُ لَـهُ فَيَرعـى ” ” وَلا هُوَ في العَليـقِ وَلا اللِجـام
ِ
فَإِن أَمرَض فَما مَرِضَ اِصطِباري ” ” وَإِن أُحمَمْ فَمـا حُـمَّ اِعتِزامـي

وَإِن أَسلَـم فَمـا أَبقـى وَلَكِـن ” ” سَلِمتُ مِنَ الحِمامِ إِلـى الحِمـام
ِ
تَمَتَّـع مِـن سُهـادِ أَو رُقــادٍ ” ” وَلا تَأمُل كَـرًى تَحـتَ الرِجـام
ِ
فَـإِنَّ لِثالِـثِ الحالَيـنِ مَعـنـىً ” ” سِوى مَعنـى اِنتِباهِـكَ وَالمَنـام
هذه كانت ثلاثية ” الحمي ” عند فرسانها الثلاثة المتنبي و غازي القصيبي و علي أحمد باكثر ، و غيرهم في الشعر العربي القديم و الحديث يرسم لنا حالة نفسية تلازم الشاعر فيصف و يجسد لنا هذه الظاهرة التي تنزل بالشاعر فيروح يترجم لنا تباريح المرض و الوجع و الحسرة و مأساة الغربة و خيبات الأمل التي يخفق فيها بل يتضرع الي الخالق في حكمة بالغة لعل كربه يفكه ربه و يعود كالطائر الغرد يصدح في شدو بين ظلال الجمال ولوحات الحياة من جديد هذه روح الشاعر الثائرة المتمردة التي لا تعترف بالأفول دائما .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى