قصة

قصص قصيرة

جواد هشامي

 

لحظات معدودة…

غفوت بضع سويعات فوجدت أن سني قد تجاوز الأربعين والشيب قد كسا شعري…
لم أصدق مارأيت !! من شدة الصدمة أردت أن أغفو من جديد لأفر من ذلك الواقع أو ربما لأجعل الواقع حلما والحلم واقعا…
غفوت من جديد كانت مجرد لحظات وحين استيقظت وجدت نفسي محاطا بأشخاص ربما أعرف بعضهم،هم أيضا تغيرت ملامح وجوههم كثيرا…
كان جسمي متثاقلا وكأني أحتضر،وكانت رائحة الأدوية تعم الغرفة، وفي ذلك الجانب لمحت الكفن فأدركت أنها النهاية،أردت أن أترك شيئا طيبا قبل أن أفارق تلك الحياة التي مرت كلمح البصر،لم أعد أملك وقتا لأعمل صالحاً كما أني لم أزرع نخلة أو نبتة قبل قيام ساعتي،ما العمل وجسمي شبه جامد وجوارحي تخبو…
قررت أن أستغل مابقي لي فهو في حد ذاته نعمة،لساني لازال قادرا على النطق ولو بصعوبة وبصوت خافت…
نطقت “لا إله إلا الله محمد رسول الله” وحينها أدركت لماذا كُتبت كلها بأحرف دون نقط،أدركت فعلا ذلك لكن لم يعد بإمكاني أن أخبر الآخرين بهذا الإكتشاف،فقد أصبحت في عالم آخر غير عالمهم…ولكل عالم قوانينه…

بيت القصيد…

كانت من أقرب الصديقات في المرحلة الإعدادية،كانت ذكية جريئة وبفكر مستنير،كانت لامعة جدا في حصص الإنشاء والنقاشات وطرح الأسئلة العميقة،كانت لها محاولات في كتابة الخواطر،كنا نفهم بعضنا البعض وكانت تستشيرني في أشياء عدة…
في عطلة الربيع خلال نصف السنة وقبل أن نتوادع أعطتني ورقة كتبت عليها بيتا شعريا أخبرتني أنه من قصيدة للمتنبي ورددته أمامي وهي تكتبه،لازلت أتذكره :”أُطاعِنُ خَيْلاً مِنْ فَوارِسِها الدّهْرُ، وَحيداً وما قَوْلي كذا ومَعي الصّبرُ”.
رددته مرتين ثم طلبت مني أن أتمعن في جوهره ومحتواه خلال فترة العطلة لكي نتناقش فيه حين نستأنف الدراسة،أصرت على ذلك وهي تلوح بيدها قبل أن نفترق…
عندما عدنا للدراسة التهى كل منا بالدروس والإمتحانات ،كنا نتناقش في أمور أخرى لكن لم يخطر ببالي يوما ذلك البيت الشعري…
انتهت المرحلة الإعدادية وافترقنا لأننا لم ندرس بنفس الثانوية وغابت…!
قابلتها بالصدفة عبر مراحل ولمرات قليلة جدا،قابلتها وهي يائسة وأحيانا متمردة على وضعها وأحيانا أخرى مستاءة من مستوى التعليم الثانوي،وأتذكر جيدا أنها في إحدى المرات أخبرتني أنها تريد الإلتحاق بالثانوية التي أدرس بها لتدنّي مستوى ثانويتها…
لم تستطع الإلتحاق بي بل غابت من جديد ومرت الأيام إلى أن قابلتها وهي في أوائل العشرينات في مكان عمومي،لم تتغير كثيرا ،فقط ازدادت نضجا وأصبحت تبحث عن علاقة جدية…
آخر مرة قابلتها صدفة أيضا في الحافلة، كانت في منتصف العشرينات،غيرت تسريحة شعرها ولونه وسألتني بشقاوتها المعهودة:”كيف أبدو بلون الشعر الجديد؟؟هل تناسبني التسريحة؟؟”
في تلك المرة لاحظت أنها مستعجلة ومرتبطة بموعد هام،كانت تلك آخر مرة ،لم أرها بعد ذلك…
ومرت الأيام والسنين إلى أن وجدت بالأمس تلك الورقة التي كُتب عليها البيت الشعري للمتنبي،بينما كنت أفتش في أغراضي القديمة سقطت،لقد تغير لونها وهذا طبيعي فهي سنين مرت لكن الحبر لازال واضحا والحروف التي كتبتها بيدها لازالت بارزة،أجل أعدت قراءتها :”أُطاعِنُ خَيْلاً مِنْ فَوارِسِها الدّهْرُ، وَحيداً وما قَوْلي كذا ومَعي الصّبرُ”.
تذكرت فورا تلك الأيام وتلك اللحظات وقادني فضولي إلى البحث عن تلك الإنسانة عبر صفحات الفيس البوك والغريب أني وجدتها بسهولة لأنها تملك صفحة باسمها الشخصي والعائلي الحقيقي دون أسماء مستعارة كما أن الصورة صورتها،تصفحت بقية الصور لأنها لم تكن محجوبة،لقد تزوجت…نعم تزوجت وأنجبت،بل وتزوجت من شخص ثري كل صورها كانت توحي بذلك،صور مع أسرتها في فيلا فخمة مع حديقة واسعة ومسابح وصور أخرى لها بدول أوربا وأخرى وهي تمارس هواية القنص وسباق السيارات رفقة زوجها…
لقد وصلت إلى ماكانت تصبو إليه،فقط أنا الذي بقيت قابعا في مكاني،تذكرت ذلك البيت الشعري الذي كان من المفترض أن نتناقش في محتواه منذ سنين،إنه أنا…نعم إنه أنا بوضعي الحالي،فأنا من يطاعن خَيْلاً مِنْ فَوارِسِها الدّهْرُ، وَحيداً وما قَوْلي كذا ومَعي الصّبرُ،نعم إنه أنا بالضبط وذلك بيت القصيد…
ـ بالإذن من الشاعر الكبير المتنبي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى