دراسات و مقالات

قصة قصيرة وقراءة

سهيلة بن حسين حماد

العنون :”حذاء صغير لدميّة”
للدكتورمختار أمين 
…………..

قبل لحظات..
كلُّ شيء تمَّ قبل لحظات، حتى آخر فكرةٍ دارت في رأسها واستقرَّت..
العيد على الأبواب، ووعد أمي غير موثوقٍ به.
العينان ثابتتان في ذهولِ بريقهما المعتاد، الرُّموش الكثيفة لوَّنها الغبار بالرَّماد، ومعالم الوجه لا توحي بابتسامة نقية، طاهرة تقفز عليه كفرحة طفلة كالمعتاد. الفم فاغر، والأسنان بيضاء ناصعة رغم ظلام الجوف، وشعرها كستنائي مذعور، أشعث، يقف مستسلمًا في دائرة حول جمجمتها التي سال دمها حتى الأذن، والذراعان متشبثتان بدميتها.
مازال الغبار تائهًا متكوِّرًا في الأفق بعد الانفجار، ينفخ ضيقه وتذمره، لم يحطّ سوى على بعض الجثث والرُّكام.
قبل دقائق تحدثت مع والدها، شكت له أمها التي تغيب كل النهار بحجة العمل، والأطفال في الحارة يتركون اللعب، ويذهبون إلى أمهاتهم لإطعامهم، وتنظيفهم من تراب الشارع، والليل عنيد.. يتأخر مرَّات.. وهي تمكث على الرَّصيف حتى يغلبها النعاس على درج البيت محتضنة دميتها.
ـ تبًّا للوطن، وتبًّا للعمل . أبي متى تعود؟
عيناها تجوب صور الجدران، تراه يضحك وهي يتملَّكها الضِّيق، والضَّجر، وهو مع رفاقه الجنود في لباسهم العسكري يبتسمون جميعًا في وجهها، أتُراهم يسخرون!
ـ أمي لم تأت بالحذاء التي وعدتني به.. أبي! أمي تكرهني.. وأنت بتَّ لا تسمع.
ينظر إليها بحنينٍ من خلال الإطار، تنظر لأمها بعمقٍ، وتبحر. حانقةً، تطيح بأكوام الأسئلة في كل الأركان، فقط تريد أن تفسر سرَّ الدمعتين الملتصقتين بحدقتيِّ أمِّها وهي تائهة في نظرات الإطار.. لا شيء سوى غمغماتٍ يشكلها، ويقطعها إلى حروف، نحيب الليل، وكلمات تشعل التساؤلات وتوقظها حيّة في الرأس..
قبلة على الجبين قبل الوداع، وقبلة أخرى على جبينها من خلال بطن أمها. 
توسَّلت إليه ذات ليل، “إما أن تعود أو تأخذني حيث أنت”.
لم تفصح عن أمنيتها الوحيدة، شراء حذاءٍ لدميتها التي أبت أن تفارقها حتى اللحظة الأخيرة.
غُدر بأبيها؛ فغابت أمها، كانت هي الوحيدة التي تجرَّعت آلام البطش على أيادي الأعداء مرتين، ونالت الشهادة في الثالثة.

**** القراءة ******

العنوان : “حذاء صغير لدمية “

الاستهلال : كل شيء تم قبل لحظات، حتى آخر فكرة دارت في رأسها واستقرت …
العيد على، الأبواب ووعد أمي غير موثوق به .

الخاتمة :

+لم تفصح عن أمنيتها الوحيدة ،شراء حذاء لدميتها التي أبت أن تفارقها حتى اللحظة الأخيرة.
+غدر بأبيها فغابت أمها كانت هي الوحيدة التي تجرعت آلام البطش على أيادي الأعداء مرتين ، ونالت الشهادة في الثالثة .

اللغة المتكلمة في النص هما لغتان:
– لغة السلاح المدمر الذي لم يتورع عن إبادة عائلة بأسرها بعد أن مات الأب وكان عسكريا تموت الأم على إثر قصف و كذلك الطفلة .

وهذه دلالة على أن الذين يديرون الحروب ليسوا بآدميين، ولا يتحلون بأي نوع من الخلق، حيث لا يمتلكون لا شفقة، ولا رحمة و لا يراعون فيها 
الأعراف الدولية فينتهكون الحرمات ويزهقون الأرواح ويهدرون الدماء ويفقؤون الأعين والجماجم .

مجتمع اغتصب فرحة عيد لطفلة واستكثر عليها شراء حذاء لدميتها التي حافظت عليها حتى بعد أن زهقت روحها وآثر دوس دماه بحذاء من صولجان من نار …….

وهاته مفارقة، فالطفلة طلبها بسيط جدا، فهي لم تطلب شيئا لنفسها، بل لدميتها التي أخلصت في حبها وضلت متشبثة بها حتى بعد موتها وظنت أن أمها لاتحبها، بالشكل الذي يليق بدميتها، و يرضيها ويحقق لها الاشباع عن الفقد لأب غاب، وهي لا زالت تنتظره.ولما طال غيابه :

-خاطبته وهو يسكن الصورة المعلقة فوق الجدار بمعية عساكر قبل لحظات تطلب منه أن يأخذها حيث يتواجد ….
وها أن طلبها تحقق .

أمنيتها كانت “حذاء لدميتها” فداس العدو جماجم” دماه ” بحذائه على إثر انفجار…
وفي هذا أيضا دلالة .
المقاربة: صورتين 
١)الصورة الأولى :صورة تذكارية لأب عسكري مع زملائه ببدلهم العسكرية …
ينظر إليها بحنين كأنه الموناليزا….

٢)الصورة الثانية :جثث وأشلاء مخضبة بدماء وحطام وركام، ودمية حظها أحسن حال ..
نص مؤلم وحزين .

حيث أن السرد قدم مشهدية الموت عن اللحظات التي سبقت القصف والموت أي قدم النهاية عن الخاتمة، ليزيد في الإثارة والحبكة .

+الحدث والزمن 
نلاحظ عدم الالتزام بتسلسل الحدثين (الحوار قبل القصف، والوصف السردي بعد القصف )* حسب تواترهما في الزمن( قبل لحظات )*

بالرغم من الألم، والوجع،إلا أن ذلك لم يمنع من أن يكون هذا العمل، عملا أدبيا رائعا، أسلوبا و سردا بتقنيات حدثية عالية وتمكن من اللغة وقد بدت من السهل الممتنع …فشكل بذلك لوحة فنية ابداعية رائعة …..
أتمنى أن أكون قد التقطت البعض مما أراد قوله أو الإشارة إليه الدكتور أمين في منجزه .

نص مفتوح يحتمل التأويلات يستحق أن يطلع عليه كتاب القصة القصيرة الحديثة، ناشئين وغيرهم، وكذلك النقاد لأنه يعتبر ورشة عمل ومختبر …..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى