دراسات و مقالات

قراءة : في قصة (موت مؤجل) للقاص عبد الحكيم الربيعي

الأستاذة سهيلة بن حماد

العنوان : موت مؤجل / مشهد لم يكتمل…

الاستهلال:

“فتح عينيه فجأة، وهو يرتجف .كان كمن يهوي من أعلى سماء وروحه تتصاعد في لهاث غمره إحساس بالظلمة بشكل غير مسبوق . اقشعر بدنه وسرت فيه رعشة هلع. أغمض عينيه ثم فتحهما مجددا . العتمة تطبق على صدره وبرد يسري في جسده من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه ……”

مشهدية مكثفة، مربكة، تنبئ بلحظة تاريخية….فاصلة بين الحياة والعدم، لحظة مغادرة روح لجسد…لحظة انفصال عن كل اتصال مع العالم الخارجي ….تماشيا مع العنوان في انتظار المفاجأة المعلنة للمشهد الذي لم يكتمل ….
البداية مشوقة ….
الحبكة عالية ….
السارد( هو) ….اعتنى برصد تفاصيل وجزئيات لذات تستعد للرحيل نقل جزئيات وتفاصيل بشكل مذهل …

انبنى السرد فيه على إيقاع متوتر لأفعال ثلاثية ومزيدة …صيغت بين زمن الماضي والحاضر ..

أما النهاية فكانت صادمة، وفاقت أفق انتظار المتلقي، الذي انحسرت أنفاسه وانحبست إلى لحظة: “و انبلج فجر حياته من جديد……”
بقي عنصر التشويق حاضرا إلى القفلة :

“تذكر حينها أنه قرأ هذا المقال على صفحة القدس العربي قبل غفوته بقليل…..”

الفكرة :

روح ترغب في التمديد …
لتنعم بالحياة من جديد تطلب مهلة ليكتفي صاحبها بابنته.. وبالحياة …
سؤال خطير يتبادر إلى الأذهان لماذا لا نثمن ما نمتلك إلا عند فقده ؟ لماذا لا نحمد الله على النعيم الذي نحظى به، مهما كان بسيطا؟؟؟…. الروح تمنت شربة ماااااء…..من يد ابنته…. طلب قد لا يعني شيئا للأحياء، وقد يعني الكثير للأموات، وحتى للقاصرين …
الحياة قصيرة … وبالرغم من ذلك لا نحسن استغلال الزمن… الوقت… من أجل الخلود.. ساعة العبور ..

السرد :

محكم البناء والتأثيث، أبرز مرارة المغادرة، و المهارة التقنية العالية للقاص :
من حيث جمالية اللغة، وزخمها وسلاسة فيضها وتدفقها ودقتها وبلاغتها …

وكذلك من حيث التفضية: فإن المشهدية المنقولة عن السارد وترتنا إلى درجة أوقفت الزمن لدينا وبقينا شاخصين مربكين ،ننتظر اسعافنا بالتأجيل لنستعيد أنفاسنا من جديد .

التيمة شذرية…..

الأسلوب شيق، من الاستهلاال إلى القفلة… نسيج الحكي مخملي…. مخضب بمحسنات بديعية….. زادت النص بريقا، رونقا، وبهاءً….

السرد جاء في شكل حكي سارد، يبدو أنه استطاع أن ينفد إلى المنولوج الداخلي للروح وهي تطلب إمهالها….
موجه لذات…لذوات … لقراء لوطن…لأمة ….قصة لتجربة اقترن فيها الواقع بالتخييل لحظة عبور …
القصة مليئة وبالرموز والمقاصد والدلالات….

حقيقة بالإطلاع

🐰🐰🐰

البنت: قد تكون مسرح الحياة ..
والماء: ربما الحياة ..

وبما أن المخرج اختار عدم تنزيل الستار …
فننتظر بقية الحكاية لذات علمت النهاية… وخبرت المستور …فماذا ستفعل قبل إغماض الجفون ؟؟؟…

وأيضا إيحياءٌ يحملنا عبر ذاكرة تاريخ.. رحلت.. وارتحلت.. تاركة بيننا ذكرى عبقرية صلاح الدين.. و إصراره على تخليص القدس منذ طفولته (رسالة آمنت بها أمّه…مذ كان في بطنها … وحمّلته إياها بالمرافقة والشحن والإصرار والإيمان والإرادة والعزيمة والصدق والعمل والتدريب والمتابعة والصقل والتحفيز ..

إسم صلاح قبيل… يتضمن رموزا، ودلالات عديدة، سوف أكتفي بأهمها :

قبيل: يذكرنا بالقصة الأولى، والدور الأول في مسرح الكون، الذي أسس درامة الحياة… منذ بداية التاريخ… المنقولة في القرآن و سفر التكوين ..

وهو حامل للفعل: قبل الذي يتضمن حتما البَعد… وذاك البُعد ….البعيد والحاضر والماضي، واتخاذ العبرة من الإخبار… والقص.. و الإختبار الأول للحظة العبور التي لم تكتمل ….

في حين أنّ صلاحا : فقد يكون أمل… وآمال… أمة.. ووطن.. وبلد.. ووعد… وعهد…على التغيُّر …
والتغيِير ..من أجل صلاح الحال… والقطع مع المُحال ..والشروع في إعادة صياغة النهاية ….ومن هنا يبدأ مشروع أول الحكاية ….
ليتحقق القصد ، والمقصد ….علنا بذلك نقبض على فاكهة القصة وجوهرها….

تمت الإشارة إلى القدس للربط مع ما جاء في النص عن “مجلة القدس العربي “، “الرمز”الحاملة للخبر ..للتوقف و للتذكير بما أصاب العروبة من وهن …أدى بها إلى الدفن حية . كالممثل صلاح قبيل في قبر أذهان تجار الفساد… والدين….
الذين باعوا القضية للعدو مقابل بضع دنانير و دراهم …لينعم قلة برغد العيش فيما يطحن البقية باسم انتظار القدر والاستسلام للحدث …

وبذلك يصبح الإسم كاملا يمثل البطل الممثل، الذي يشير إلى أننا كلنا ممثلون قادرون على آداء أدوار ومشاهد مختلفة على مسرح الحياة …في أزمنة مختلفة ..

ما ينقصنا هو الوعي والإدراك والإصرار، بأن الزمن لا ينتظر….

من هنا نلاحظ الرؤيا الاستشرافية للقاص، في توظيف” الزمن الاسترداد” و كذلك الإيقاع.. الذي رافقنا على نغمات الكلمات… ذات الدلالات والرموز، ب”القصة المنجم للكنوز “منذ البداية وهي لازالت تنتظر كشافا شغوفا بالبحث عن الجواهر والدّرر في الحفر … في بطون السطور وبين طيات النصوص في المتشظي..و المضمر والمذكور .

قبل غفوته بقليل: قبل وكذلك الغفوة تؤكدا ما انتهينا إليه عبارة جاءت مشحونة بالأمل..
أمل استفاقة العرب من الغفوة التي طالت ….والتي صارت تعانق الأبد….إننا في انتظار……
بقية المشوار……

سهيلة بن حسين حرم حماد

======
=========

القصة :

قصّة قصيرة “موت مؤجّل” / بقلم: عبد الحكيم ربيعي
فتح عينيه فجأة وهو يرتجف. كان كمن يهوي من أعلى سماء وروحه تتصاعد في لهاث. غمره احساس بالظلمة بشكل غير مسبوق .اقشعر بدنه وسَرَتْ فيه رعشة هلع.اغمض عينيه ثم فتحهما مجدّدا.العتمة تطبق على صدره وبرد يسري في جسده من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه. يقال أن البرودة من علامات الموت والعتمة من صفات القبر. تقريبا كما حالته الآن.
تحسّس المكان فاصطدم بالحائط. يا الله! اتراه جدار القبر؟ انطلقت صرخة مكتومة من حنجرته لم يسمعها غيره .آه إنه الموت فعلا ! أيكون قد دفن وهو حيّ؟ إنّه النزع المشهود، ما في ذلك شكّ. يا لحظّه التعيس! حتى الموت ألفه وألف وَطْأَه .هو لا يذكر لحظات وفاته الأولى. لكن هذه المرة طعمها مرّ كالعلقم. رعب وغربة ووحشة ، كوكتال من الأحاسيس هزّه هزّا وخضّه خضّا بشكل جعله يترك جسده مسجّى لتغادره روحه طواعية.العرق يغزو كلّ مسام جسده وإحساس بالاختناق يتزايد لحظة عن أخرى حتى أصبحت أنفاسه زفرات حارقة.تعالت حشرجته وازداد ضيق صدره.شيء ما يريد انتزاع روحه انتزاعا دون رحمة .أحسّ بجفاف في حلقه ورغبة قصوى في الإرتواء.أين له بقطرة ماء تبلّل ريقه.وحدها إبنته تلبي رغباته البسيطة.لو كانت بجنبه لأفنت روحها لأجله. جالت صورتها بمخيّلته وهي دامعة العينين تبكيه.كم هي جميلة حتى وهي حزينة ! يا الله لقد نسي متى قبّلها آخر مرة ما أحوجه لكأس من يدها وقبلة على جبينها .هل سيتركها لوحدها؟ من لها بعده؟ ” لالا لا لا لن يكون ذلك.
انتفض جالسا وهو يدعو “ربّي أمهلني بعضا من الزّمن لها وللحياة فمازلت لم اكتفِ بهما “. ومدّ يده تتحسس المكان. كانت ترتجف كقصبة ، انتشر الهلع والفزع في قلبه واختلط عليه الأمر.كان يردّد “يا رب، يا رب ” ويده تتخبط يمنة ويسرة .انتبه للحظة أن يديه تتحرّكان بحرية كما لم يكن له كفنا؟ غريبة هذه الميتة !
وواصلت يده ” في غمرة تفكيره البحث بشكل هستيري في الظلمة عن أثر للحياة لترتطم بفأرة الحاسوب التي سقطت من على المكتب وأحدث سقوطها دويا رائعا أرعب سكون الموت وعتمته وانبلج فجر حياته من جديد مع إضاءة شاشة الكمبيوتر بشكل تلقائي.
كاد قلبه يقفز من بين أضلعه فرحا وسرورا كعصفور غادر قفصه بعد أسر طويل.تمدّد على سريره وهو ينظر الى الحاسوب بعين شاردة وقرأ ” الفنان صلاح قابيل دفن وهو حي وتوفي وهو يحاول الخروج من القبر”
تذكر حينها انه قرأ هذا المقال على صفحة القدس العربي قبل غفوته بقليل.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى