دراسات و مقالات

قراءة في قصة قصيرة جدا للقاصة فايزة زاد من الجزائر

غريبي بوعلام

هجود

حاور دمامل القلب المتقرحة، نزّت رضابا من فتيل السعير المعشوشب بين جنبيه، و مضت قداحات تحمل شعار التعرية، عاد للهجوع على جرحة.

———-

القصة تتناول قصة حُب، من المؤكد أنها انتهت بالفشل والفراق، بالتالي الألم الكبير الذي يجتاح صاحبه دون أن نعلم سبب ذلك الفراق المفجع والعذاب الموجع.

من بداية القصة إلى نهايتها وهي تدور وتلف حول ذلك المعنى دون الذهاب إليه مباشرة، ذلك المعنى الذي يعتبر المحور الرئيسي لهذا النص الأدبي.

و قد شبّهت القاصة آلام و عذاب بطل القصة بالدمامل، و هي جمع دملة، و هي ما يظهر على الجلد من حبوب فيها قيح، طبعا القاصة هنا تقصد دمامل معنوية بما تحمله من عمق معاني الألم، زد على ذلك الدملة غالبا تحمل في جوفها ذلك القيح المعروف برائحته الكريهة، الذي يدل على تعفّن الجرح إلى أقصى حدود العفن، و كل هذا يصب في اطار ذلك العذاب النفسي العميق و الألم الروحي الشبيه بلهب الحريق، و قد أحسنت القاصة التعبير عن ذلك في قولها ( متقرحة) و هنا نرى كيف يتطور ذلك الألم و يزداد من خلال تلك الكلمات ( دمامل القلب المتقرحة) في القلب، و هنا اشارة إلى العواطف و المشاعر التي تسكنه، و تنخره من الداخل، و ما حدث لها من تقرحات و جروح و دمامل متعفنة التي كانت بسبب ذلك الفراق أو ذلك الموت المعنوي، و الأجمل حين قالت القاصة أن البطل يحاور تلك الدمامل و كأنها حية و قائمة أمامه، و قد أعطته الجواب المبثوث في طيات هذا السرد القصصي القصير جدا، و من جهة أخرى يمكن اعتبار هذا الحوار، حوار داخلي بمعنى ( مونولوج ) و هو من الأساليب الأدبية للغوص إلى أعماق النفس و إخراج مكنونها المستور، كما يمكن اعتبار هذا النص غوص في الذاكرة لتصعد ذكريات ماضية مُرة كالعلقم و الحنظل.

و في قولها نزّت ( أي تلك الدمامل المتقرحة ) بمعنى صعدت من الأعماق إلى السطح، و هي تقصد أن ذلك الألم العميق طفى كالزبد على ذلك العاشق الفاشل، و ذلك الرضاب كان من فتيل السعير المعشوشب ، نرى هنا كاتبة القصة كيف استعملت كلمة ( فتيل ) و هو ذلك الخيط الرفيع السريع الالتهاب في اشعال السعير، و هنا اشارة على الحب الفاشل الذي كان كالعشب الأخضر في جنبيه، وهنا إشارة و تلميح إلى كيف كانت تلك العواطف الراقية من قبل ذلك الموت أو الفراق.

و بعد ظهور كل هذا الأعراض على جسد و سلوك بطل القصة، وجد في الواقع مَن يزيدها اشتعالا و سعيرا، بدل أن يجد مَن يخمد نار جوانحه المتأججة بعد أن فضحه ذلك الدخان الأسود و صار كالرماد، وكان هذا من خلال قول الكاتبة (و مضت القداحات تشتعل ) بدل أن يجد في واقعه من يخمد تلك النيران، تلك القداحات عملت على فضحه و كشف ما يخفيه في أعماقه من لواعج و حروق في أقصى درجة الألم، فشعر كأنه يتعرى من داخله، و يسقط عنه اللباس الذي يستر جوفه المتأجج.

و في الأخير لم يجد إلا العودة إلى الهجوع من جديد على جرحه العميق، عسى أن يعود إلى سباته العميق و يلفه كفن النسيان ولا يحاوره مرة أخرى، و هنا تكمن مفارقة القصة، فبعد أن تذكر ماضيه المؤلم، تألم كثيرا، ثم عاد فأغلق باب ماضيه التعيس، و نرى هنا شخصية البطل المهزوزة من الداخل و عدم تمكنه من السيطرة على غليانه العميق.

و عيب هذه القصة إن صح هذا التعبير، يكمن في قفلته الناقصة الدهشة، تكاد تكون عادية، القاصة حيث لم تستعمل عنصر المفاجأة في الأخير بما فيه الكفاية، بالتالي لم تهتز مشاعر القارئ كثيرا في أخر القصة، و القفلة كما هو معروف تأتي في الأخير من حيث لا ينتظرها القارئ فتدهشه من قوتها إلى درجة الصدمة في بعض الأحيان فتقلب شعوره رأسا على عقب، و تترك في جوفه الأثر العميق الذي لا يندثر بسهولة، كما هناك إمكانية جعل النهاية مفتوحة على التأويل، بمعنى القارئ هو من يلمس تعدد تفسير النهاية فيختار ما يناسب ذوقه، و هنا تكثر التفسيرات فيزداد النص جمالا و المعنى عمقا.

من ناحية المبنى القصة موفقة جدا خاصة في السرد القصصي المكثف بطريقة عجيبة ملفتة للنظر، مع حسن اختيار الكلمات بعناية و دقة، و جعلها في مكانها المناسب بحيث تشكل لنا عقد القصة أو مفارقتها التي وصلت إليها برمزية في منتهى الرقي و الجمال اللفظي دون أن ينفلت منها عمق المعنى الذي أرادت أن تصل إليه القاصة، كما نلمس جيدا تلاحم و تماسك المعنى بالمبنى دون أن يطغى أحدهما على الأخر و هذا راجع إلى حنكة في السرد و حسن استعمال الأدوات الإبداعية عند صاحبة النص.

كما احتوى النص على صياغات أدبية غاية في الجمال، جعلته يرتقي بسرعة في سُلم الأدبية، و ذلك بتوظيف تراكيب لغوية متماسكة، دون ترك فراغات سردية تجعل القارئ ينفر من القصة، و قد ساهم هذا في جذب انتباه القارئ و تحريك احساسه و التفاعل وجدانيا مع حدث القصة التي اشتملت على صور بيانية موحية، تحمل ايحاءات رقيقة تارة، و تارة أخرى قوية في وقعها على نفسية القارئ، كأن القاصة تمسك شعوره و تدير دفته حيث تشاء و كما تريد.

العنوان كان في كلمة واحدة، حاول تلخيص الفكرة العامة للقصة، ولمّح إلى المعنى دون أن يكشف عنه كليا، كما يحمل في طياته إيحاء يقود القارئ إلى نهاية القصة ليدرك مغزاها.

و من المؤكد أن عمق معنى هذا النص يحتمل تأويل أخر، يمكن أن يكشف عنه قلم أخر و يجد ما لم يصل إليه قلمي المتواضع، و هكذا الإبداع الجميل كلما تعددت تفسيراته يزداد عمقا و ثراءً، بل أُحادية النظرة هي التي تحشره في دائرة ضيقة و محاصر جدا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى