دراسات و مقالات

قراءة في قصة (راقصو المـفازة) للكاتب محمد بن ربيع الغامدي

هويدا عبد العزيز

أولا: النص

راقصو المـفازة

صرخوا في وجهه: لماذا هنا ؟
الوعد بيننا أطراف مدينة الطيبات فلماذا هنا؟
لماذا تلقى بنا في قلب هذه المفازة الموحشة ؟! أعطيناك أموالنا لتأخذنا إلى حيث الحياة لا رملة الموت هذه.
تقدم منه أحدهم ، أمسك بتلابيبه حتى كاد أن يقتلعه من على الأرض ، حذره من مغبة تركهم في هذا القفر ، صاح به والزبد يتطاير حول وجهه ستموت قبل أن نموت، لن أتركك تعود أدراجك ونحن هنا ، إما أن تنجزنا ما وعدت وإما أن ندفنك حيا .
خلص نفسه من أياديهم الغاضبة ،أقنعهم أن الوجهة قريبة ، مقدار رمية حصاة فقط ، ولو كانت الطريق نافذة لأوصلهم بالسيارة ، لكنها تنتهي هنا، عليهم أن يقطعوا مسافة قصيرة سيرا على أقدامهم ، وعليه أن يعود لتهريب دفعة أخرى من الباحثين عن الحياة، وحتى يبدو صادقا في عيونهم ولو لنصف ساعة فقط
قال لهم : مدينة الطيبات على مرمي حصاة من هنا
،من شاء منكم أن يذهب إليها فهذا رأس الطريق ، ومن شاء منكم أن يسلم أحلامه للشكوك فليعد معي
وكفى الله المؤمنين القتال .
أغراهم كلام المهرب بالسير فورا، تركوه يذهب إلى حمأ مسنون وساروا على بساط الرمل الناعم ، رمل إذا حركه الهواء تحرك فدفن كل شيء حوله ، المرتفعات والصخور من حولهم لم يبق منها إلا قليل من سوادها ، إذا مر عليهم مر كأنه المناشير تنحنت أقدامهم وسيقانهم ، يصب الاحمرار في عيونهم صبا ، يملأ أنوفهم يحمل إلى حلوقهم طعم الرمل الساخن ، لم يكن ذلك ليثنيهم عن بلوغ مدينة الطيبات ، ساروا سيرا طويلا حتى تصرم نهارهم والمفازة باقية تطوف بهم
من كل الجهات .
جمعهم الليل في حضرة بروز صخري بدا لهم وكأنه حائط صغير تأوي إليه أنفاسهم المتعبة ، أو وثن تلوذ به أحلامهم البائسة التي تفقد معناها في هذا الفضاء الأجرد ، فكروا في ساعة أو ساعتين من الرقص في تلك الحضرة لكنهم تذكروا حاجتهم للنوم ، غدهم يخبئ
لهم مسافات مجهولة وأقداما قد أضناها المشي ، تذكروا المهرب الماكر الذي قذف بهم نحو هذا المهمه الموحش، أوسعوه لعنا فقد بان لهم ما كان يخفيه تحت وجهه لكن أحدهم قال : من يخون وطنه يخون الناس جميعا .
قبل أن يرتفع عمود الصبح نهضوا ، أفئدتهم مثل بوصلة لا تقبل عن الشمال بديلا ، هجرتهم مخالفة القانون ، هجرة غير شرعية ، ولكن القانون الذي بنى عليهم سدا سوف يجد لهم حلا ، سمعوا خشخشة تختلط بحفيف الرياح التي اشتدت مع ساعات الليل الأخيرة ، مدوا رقابهم ليروا عشرات الهياكل العظمية البشرية تتناثر على المنحدر من تحتهم ، ران عليهم الصمت ، توقفوا كمن يؤدي الصلاة على الميت الحاضر ، تحدرت دموعهم في خشوع ومهابة رغم أن الهياكل كانت مع كل هبة تبدو مثل أجساد راقصة .

محمد بن ربيع الغامدي

ثانيًا: القراءة

ما زال حلم الهجرة يداعب عقول الشباب و مخيلاتهم في الوطن العربي على امتداد أقطاره.. بين صعوبات و تحديات
تواجههم في أوطانهم الأم، من بينها التكافؤ في الحصول على فرص العمل والدخل المحدد، وتدني بالخدمات الإجتماعية .
وبأروع لغة وأصدق تجربة شعورية ، عبر كاتبنا عن مأساة شخوصه ومعاناتهم، مستهلا قصته بصراع محتدم وبسؤال استنكاري تهجمي :
“صرخوا في وجهه: لماذا هنا ؟”
بين المهرب و مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين تحملهم أحلامهم على أجنحة السرعة لوادي الموت.
كنوع من التوتر الذي يحفز فيه القارئ ، و يحاول فيه تعميق ادراكه و بأسلوب سلسل باهر ومدهش، يجد الملتقي نفسه يتنقل بين أصداء المتن دفقة واحدة
باستلهام عنوان له من السيمياء والسحر غرابة، ما يستدعي التأمل الجمالي
(راقصو المفازة )
فالرقص هنا له من الفنية الجمالية في تميزه عن المشي ما يثير ذائقة المتلقي ليلقينا بكهنوت الغموض والتجلي الذي يستعصي على التفسير و بمقاربة فنية تاريخية يعيدنا بالذاكرة إلى لوحة العصور الوسطى
” رقصة الموت” هي لوحة رسمت عام 1493 للفنان ميكائيل فولغيمون.
وقتما كان يعد الموت فنا وشكلا من أشكال الحياة يصور أشخاص فارقوا الحياة، بأشكال متعددة وصور مختلفة ، فالهياكل شكل من أشكال الموت
لتستوقفنا الطبيعة الموحشة بتفاصيلها المخيفة، دون أدنى شفقة أو رحمة .
كما ولج في الفقرة الثانية والثالثة .
ويقول ابن الأَعرابي : سميت الصحراء مفازَة لأَن من خرج منها وقطعها فاز.
وقال ابن شميل : المفازة التي لا ماء فيها وإِذا كانت ليلتين لا ماء فيها فهي مَفازة وما زاد على ذلك كذلك ، وأَما الليلة واليوم فلا يعدّ مَفازة .
قال ابن الأَعرابي : سميت المفازة من فَوَّزَ الرجل إِذا مات .
ويقال : فَوَّزَ خرج من أَرض إِلى أَرض كهاجَرَ .
وتتوالى الأحداث ، رغم وضوح الحقيقة التي باتت جلية أمام ناظريهم ، تأبى دواخلهم التصديق ، يدفعهم سراب الحلم و الأمل الكاذب، ويتبعون بائع الوهم ، رغم يقينهم أنهم لن يبلغوا الحلم ولاغرابة فالظمآن يرى السراب ماءو يُفاجئُنا بتقنية الارتداد الفني” الفلاش باك”
“تذكروا المهرب الماكر الذي قذف بهم نحو هذا المهمه الموحش، أوسعوه لعنا فقد بان لهم ما كان يخفيه تحت وجهه لكن أحدهم قال : من يخون وطنه يخون الناس جميعا .”
وبالأخير اختتم الكاتب قصته بتقنية من أروع تقنيات الأدب المفتوح باجلال ، لتفتح المجال لتأويلات متعددة ، تعتمد على الاستنباط لمنطقية الأحداث وكما بدأ الوجود من العدم ينتهي اليه . ليؤكد أهمية العقل في انطلاقه من الشك لليقين ويحترم الحياة الإنسانية فمن قادر أن ينهيها وهي لا تملك من امرها شيئا .
لقد حقق المتن الترابط والتكامل بين عناصره و وحدة موضوعه محققا هدفه ، بين الترهيب والترغيب وتاركا انطباع يسرى في أعماقنا بطريقة عقلانية.
تعقيب
————-
وتظل الهجرة غير الشرعية من المشكلات القائمة
التي أصبحت تؤرق المجتمع المحلي و الدولي نظرا لإرتباطها بسلسلة من القضايا المتعاقبة
كالاتجار بالبشر و العمل القسري والعبودية المنزلية والاتجار بالجنس وتجنيد الأطفال واستغلالهم جنسيا
وبالرغم من أن سن القوانين و العقوبات المشددة
التي تصل للمؤبد إلا أن مازال الشباب يقعون في شراك سماسرة الوهم ومروجوه و ما حاجة شبابنا لمثل هذه التوعية و محاكاة مشاكلهم ومعاناتهم .
كانت هذه محاولة اجتهادية إنشائية لاضاءة النص .
لكم منا كل الود والتقدير .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى