دراسات و مقالات

قراءة:بعنوان: القصّة القصيرة و الأخلاق

سهيلة بن حسين حرم حماد

أولا: النص

اللّيلة الفارقة..

“مرحبا بجميع الحضور مجددا.. بعد هذا الفاصل الموسيقي البديع، حان الآن موعد الإعلان عن الجائزة الأولى في القصّة القصيرة.. هدوءا من فضلكم.. الجائزة الأولى من نصيب القاصّ (حسن وسام) عن قصّته “فراق”.. والتي اِرتأت اللجنة أن تُغيّر العنوان من “فراق” إلى “اللّيلة الفارقة”.. وهي قصّة سليمة اللّغة، تامة الشروط لخضوعها لكلّ مقومات القصة القصيرة، فألف مبروك لك يا (حسن).. ”
تلك كانت الكلمات التي صعقت الكاتب المبتدئ (حسن) الذي ذُهل أيّما ذهول أمام إصرار رئيسة اللجنة على ذكر اِسمه وإعادة ذكره لثلاث مرّات..
لطالما كان (حسن) يزِن كل خطوة قبل الشروع في كتابة أوّل قصّة له وآثر أن يعزّز أوّلا ثقته بنفسه وقدراته باِرتياد الملتقيات ودور الثقافة والتظاهرات الثقافية.. لطالما كان يؤمن بمقدرته الإبداعية وأنّ عليه أن يتشبّع بمقوّمات الكتابة القصصيّة حتى يتسنّى له شقّ طريقه بتؤدة وتروٍّ.
-(حسن وسام)، أين هو (حسن)؟ أعيد: الفائز في ملتقى اليوم للقصة القصيرة هو (حسن وسام)..

حينها فقط نبّهته مشارِكة كانت تجلس بجانبه بعدما قرأت اِسمه على بطاقة المشارَكة..
-ألسْت (حسن وسام)؟
-(متلعثما) بلى.. أنا ذاته..
-إنهم ينادونك.. لقد فزت بالمركز الأول.. هنيئا لك.

قام (حسن) من مكانه على صوتِ تصفيق الحاضرين، ولم يكن يدْرِي هل يضحك أم يبكي.. اِضطربت خطواته وأصابته غشاوة سرعان ما أفاق منها بعدما رأى من بين الحضور السّيّدة (راقية)، الشاعرة التي شجّعته على اِرتياد الملتقيات لصقل موهبته والسيّد (علي)، القاصّ المشهور الذي لطالما كان مؤمنا به كمشروع قاصّ كبير.. ومن بين الحاضرات أيضا كانت السيدة (سلاف)، الناقدة التي شدّت على يديه لكتابة أول قصّة له.. كانت عيناها تشعّان فخرا به ووجهها الباسم يزيده ثقة وقوة.. كانت كعادتها تصوّره لتُنزل له فيديو مباشر يشاهده العالم أجمع.. لوّحت إليه من بعيد متتبّعة إياه حتى وصل إلى منصّة التكريم.. هل يفرح أم يحزن؟ هل يضحك أم يبكي؟

حالما وصل إلى المنصّة، اِستقبله الجميع باِبتسامة عريضة وعلى وقع التصفيق والمباركة والصور والفيديوهات المباشرة والمسجلة اِستلم الجائزة.. وسمح لقلبه الصّغير بأن يقفز فرحا بهذا الإنجاز العظيم الذي لطالما اِنتظره..

حان وقتُ اِلتقاط الصورة الجماعيّة، وكعادته، كان السيد (فاروق)، المصور الفوتوغرافيّ لجلّ الملتقيات يحاول أن يقسم الحضور إلى ثلاثة صفوف حتى تكون الصورة التذكارية كاملة..
اِصطفّ الحاضرون ما عدا واحدة كانت تجلس في آخر صفّ بالقاعة.. نادتها المشرفة على الملتقى فلم تستجب.
-يبدو أنّها ليست من عاشقي الصّور مثلي.

أمَرَهم المصوّر بالاِبتسامة فاِستجابوا دون تلكّؤ واِلتُقِطت الصّورة الجماعيّة.. ئ
تفرّق الحاضرون وغادر معظمهم فيما اِنشغل (حسن) بالردّ على أسئلة الصحفيّين والاقتصار على شكر لجنة التحكيم على ثقتهم ونزاهتهم دون مجادلة تغيير العنوان، إذ قبل اِقتراحهم بتحويله من (فراق) إلى (الليلة الفارقة).

عاد (حسن وسام) إلى مكانه منشرح القلب، مرتاح الخاطر وحمل معطفه ليهُمّ بالمغادرة وزفّ الخبر إلى عائلته وخصوصا خطيبته التي لم تدعمه قطّ معتبرة الكتابة إضاعة للوقت.. وحين هزّ رأسه، لاحظ ذاتَ الشابة التي تخلّفت عن أخذ الصورة مع الحاضرين ماتزال جالسة بنفس مكانها آخِر القاعة. طلب منها الحارس بكل لطف إخلاء المكان لأنه سيقوم بإغلاق القاعة لكنّ الشابة لم تُعره اِهتماما.. فتوجّه (حسن) نحوها وسألتها أن تغادر. حينها قامت بحركة عرف معناها جيّدا، ثم أمسكت القلم الذي بحوزتها وكتبتْ على الورقة التي أمامها والتي ناولتها إياه: “أنا لا أستطيع أن أسمعك، لقد عوّلتُ على صديقة فيسبوكية لي وعدتني أن تكون بجانبي يوم الإعلان عن الجوائز حتى أعرف إن كانت قصّتي “فراق” هي التي فازت.. لكن يبدو أنّها نسيتْ موعدنا لهذا اليوم، لا عليك.. سأغادر الآن وأنتظرها خارجا.”
قامت الفتاة من مكانها فصُعق (حسن) من الاِسم المدوّن ببطاقة المشاركة: (وسام حسن).
-فقط سؤال لو سمحتَ: مااسم القصة الفائزة؟ هلا كتبتَها لي على الورقة رجاء؟

سهام شكيوة
-تونس-

===

ثانيا: القراءة

قصّة بهيّة السّرد، مخاتلة أحدثت الصّدمة و الدّهشة في القفلة …في لغة بسيطة فصيحة بليغة ..خدمت الفكرة و الرّؤية … و حيث أنّ إمكانيّة الخطأ واردة في تشابه الأسماء الثّنائيّة فقد ألزم المشرّع الأفراد بضرورة تضمين الوثائق الرّسميّة، لإثبات الهويّة كمضمون الولادة و بطاقات التّعريف القوميّة، وجوازات السّفر، و غيرها الإسم الثّلاثي و ربّما الرّباعي، مع ضرورة ذكر الجنس و الهويّة تفاديّا لحصول أخطاء مماثلة، و لرفع الالتباسات و ربّما الشّبهات في كثير من الأحيان ..حتى لا يحرم فرد من حقّه في ميراث أو مناظرة أو غيره .. كما حصل في هذه القصّة القصيرة، حيث قامت اللّجنة بتغيير إسم القصّة، و باعتبار تشابه الأسماء تسلّم حسن الجائزة الأولى بدل الفتاة التي تحمل نفس إسمه بالرّغم من تأكّده بأنّ إسم القصّة التي استبدل عنوانها ليست قصّته، و بالرّغم من ذلك تعمّد تسلّم جائزة ليست من حقّه متّكلا على غياب صاحبها ، دون أن يكلّف نفسه التّساؤل أو طلب توضيح من اللّجنة .. و لم ينتبه القارىء لذلك واكتشفنا حقيقة الأمر إلا عندما قرأ الإسم المدوّن على بطاقة المشاركة للفتاة التي لا تسمع عندها صُعق ذلك أنّه تأكّد من أنّها صاحبة القصّة الفائزة بالجائزة … وقد استعملت الكاتبة في ذلك تقنيّة التبطيء لتحدث الصّدمة في النّهاية لرجّ المتلقي و حمله على التأمّل في سلوك المثقّف، لإعادة النّظر في قيم المجتمع و الأخلاق …

و لأنّ الخطأ اقترن بالإنسان ..هنا يطرح موضوع الجوائز و الحكم على أفضليّة النّصوص. من هنا تصبح الجوائز و المراتب المتحصّل عليها، في المباريات والدّورات التّحكيميّة ليست مقياسا لقيمة النّص الفعلي و النّهائي ، ذلك أن التّقييم لا يعتمد على آليات علميّة ثابتة و دقيقة بل، مهما بدا التحكيم ملتزم بإخضاع النّصوص إلى معايير أكاديمية فالذّوق الشّخصي والإنطباع قد يطغى عليه.مهما حاول التجرّد … وكم من نصّ لم يحظ صاحبه بجائزة على البوديومات؟ ثم أثبت التّاريخ أنّه كان جديرا بالتّنويه والتّتويج، و بالتّالي قد يتغيّر رأي نفس الحكم على نفس الأثر من فترة إلى أخرى، و هذا حصل لعبد الحميد جودة السّحّار في قصّته الثّانية “الحصاد ” في زمن لاحق لعدّة اعتبارات و تغيّرات …لذلك على الإنسان أن يعمل ويجتهد من أجل أن يقوم بعمل مميّز. و لكن من دون أن يصاب بالإحباط إن لم يفز …. و عليه أن يعي بأن يفهم بأن النتيجة الحقيقية لنجاح عمل سيثبته الزّمان، بخلوده أو أفوله في المستقبل، و هذا أيضا يبقى في ذمّة القارئ العارف، و الحظّ، و حركة الانتقاء التّاريخي الزّمني لحماية عمل ذو قيمة من الحرق أو الإتلاف، كما حصل لمكتبة الاسكندريّة في الزّمن الغابر و كذلك لمكتبات بغداد التي أتلفها التاتار بحذف كتبها من رفوف المكتبات و قذفها في دجلة و الفرات، فخلّدت ذكرى القذف .. فيما غرقت متون رؤى و أفكار فلاسفة عظماء ذالك العصر و غيرها من العصور .. ولم يشفع لها قيمتها . نذكّر هنا بأفلاطون و أرسطو ما كان لتصلنا أعمالهما وأعمال غيرهما لولا اعتناء الإسكندر المقدوني الأعظم و تشجيعه بترجمة متونهم …فبقيت خالدة إلى الآن …
السّارد في النّص كان أداءه متناغما مع الفكرة والحدث أثّث التّفضية و الإخراج الرّكحي للمشهديّة بشكل مقبول ، و قد استطاع أن يضفي حركيّة في النص أقنعت المتلقي من حيث ربط النتيجة بالسّبب والحاضر بالماضي فأجبرنا قصرا على متابعة عدسته من الزاوية التي أراد وتسليطها على شخوص القصّة فما كان من المتلقّي إلّا أن تابعه في شغف لرقّة السّرد ارتدادا و توقفا و تبطيئا لعذوبته ورونقه و تمنعّه في دلال، ولإفصاحه عن فاكهة الحكاية في النّهاية …

العنوان : اللّيلة الفارقة، كعتبة من عتبات النّص ، و فضاء موازي للمتن، جاء مركبّا نعتيّا، مترجما و حاملا لإيقاع النّص سواء منه الدّاخلي أو الخارجي انسجاما واتّساقا من حيث الثّنائيّة و المفارقة و الإشكاليّة والمخاتلة حمّال أوجه، ودلالات فارقة تفرق بين ضياء انبلاج الصّبح، وعتمة حلول الظلام ، بين وضوح و غموض بين مسموع و غوغاء بين حقّ و باطل بين بياض و سواد..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى