خواطر

عزلة قسرية..

راما شحادة.

وكأني بنفسي أنادي بلا صوتٍ في قعر قمقمٍ.. أن رتبوني. هذبوا فوضاي.. أعيدوني لذاتٍ انفصلت عن جسدي.

قد وقعتُ ضحية مارد أرغمني الدخول إلى قمقمه ذات ليل اعتدتُ أن أسهره فيصهرني سأماً. وتنسفني الريح بزفرةٍ ملتْ صور إسرافيل.

لم أفرك القمقم ابداً . ولم أؤمن بتلك الخرافة يوماً، ولست أدري كيف تبدَّى أمامي غمامة ثم تشكَّل إنسياً بضخامة آدم. لكنه كان مارداً جميلاً وكأن وجهه قطعة من صباح لم يدركها الليل.. كان ذا خدٍ أسيلٍ وفمٍ ضاحك.

لم أطلب منه كذلك أية أمنية. لكنه كان عليماً بخيالي. يراه بأمِّ بصيرته. فأراد لي العيش فيه يقيناً. أخبرني بأن لي في القمقم عالماً تم خلقه لأجلي.. وبحسب خيالي.

ليس فيه وصب أو نصب. الماكر فيه بلا ملامح، تعرفه من دكناء طلعته. الحب والتقدير والاحترام والوقار والسؤدد والمجد للفقراء الحالمين والأخيار الزاهدين .. فلا أحد سواهم جدير بحكم عالم القمقم ذاك. أخبرني بأنه سيرفعني على العرش وتخرُّ الأماني لأجليَ سُجداً.

بقيتُ على صمتي.. ولم ينبرِ ثغري بأي رد.

وجثى المارد بقامته العملاقة قبالتي . ومدَّ ذراعه المفتول نحوي والتقفني براحته الضخمة.. وقبل أن تنكمش على جسدي.. انطفئ الدفق الأخير من النور. فأظلمت سجائف قبضته. واستحلتُ غمامة.

وانقطعتْ جلجلة الأكوان واختنقتْ أنفاس الأرض وانطفأت أنوار القمر ولم أعد أرى شيئاً.. ناديتُ وناديت بصوت مكتوم.. أن أخرجوني من هنا. لمَ اخترتموني دوناً عن غيري؟! ماذا جنيتُ بحقكم؟! أخرجوني بالله عليكم.
ولكن.. أين صوتي؟! أين تلاشى هدير حنجرتي؟ إني مذعورة. أُحسُّ بضيق يخنقني.

ولكنَّ أحداً لم يُسعفني أو يَسمعني، ولم أعلم ماذا يُراد بي، ولم أرَ من تلك الدجنة القاتمة الا أضغاث بصر. بكيتُ وبكيت حتى تردد رَجعُ بكائي وزلزلة الوجيب في قلبي.

عجزتُ عن الحَراك. فأنا الفراشة التي لُفَّتْ بصفحةٍ تصغر سماء روحها المعتادة على التحليق في ملكوت الرحيق والنور المنبثق عن العتق .. فبقيت على حالي هذه أشهراً.. أبكي وأبكي حتى أتعب ثم أنام ..

حتى أحلامي صارت سوداء. حلمت بأني أسيرة زنزانة.. أنشبُ كفيَّ بقضبانها فأهزها هزاً عنيفاً وأصرخ ملء حبالي الصوتية.. ويحضرني سجَّاني صبحَ مساء. فينهرني.. ويأمرني بالصمت فأبصق في وجهه، وأنعته بالمسخ الدجال. فيزمجر غضباً و يرميني بقصعة زادٍ عَفِنٍ وجرة ماءٍ آسنٍ. فيحول إبائي دون مساسهم وأسرُّ امتناناً لعزتي.

تمنيت لو أني بقبرٍ.. يزورني منكر ونكير ويقنعاني بأني
ميتة.. ويؤنساني بغلظتهم فأستكين ولا أعترض.

وبقيت على حالي هذه أعواماً لا حصر لها..

فإذا بغمامة تفور أمامي لتشكل جسد المارد كرة أخرى.
لم أشأ النطق ولو همساً.. لكنه باغتني ببضع جمل: (من اعتزل البشر لا يأبه إن فقد البصر.) .ولكي تعيشي في الخيال عليك البقاء في سُدفة هذا القمقم. أغمضي عينيكِ يا فتاتي واحتكمي لأمر البصيرة.. وستدركين صدق النبوءة). ورماني بأكداس من الأوراق ورزمة من الأقلام ثم تلاشى.. ومن يومها وأنا أعيش بلذةٍ(قيد الخيال) يؤنسني صوتي الذي عاد صريراً على الورق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى