قصة

صيصان الحب

رعد الإمارة

زمد رأسه بحذر من فوق السياج المشترك مع سطح الجيران،التفت يمنة ويسرة ثم تنحنح بصوت خافت، التفتت البنت ذات العشرين عاما، احمر وجهها لكنها واصلت التحديق بغرابة في هذا الكائن ذي الشعر الأجعد،حاول أن يرفع رأسه أكثر،اشاحت البنت بنظرها حتى إنها رفعت أنفها بشموخ للأعلى! ، تنحنح بصوت أقوى هذه المرة، التفتت البنت ورفعت حاجبيها لكنها مالبثت أن أخذت تضحك. كانت تطعم بعض الصيصان التي فر أغلبها عندما نفضت يدها فجأة، واصل التحديق بها، أخذت تدور حول الصيصان وهي تصفق مثل بلهاء،اعاد النحنحة،رمقته بغضب راح يلوح على محياها،ضمت يديها الى صدرها فجأة، ظل يراقبها بدهشة ،خيل له انها كانت خائفة ،والا مابالها تتلفت بهذه الصورة المضحكة !. قبل أن تهبط التفتت للمرة الأخيرة، كانت ملامح وجهها قد ارتسم فيهما من الفضول الشيء الكثير، شعرت به يرفع يده اليمنى ويقربها إلى فمه ،ثم يطوح بقبلة خرقاء مثل ملامح وجهه المضحكة!لم تبتسم بل ظلت تحدق فيه ،رفعت طرف ثوبها الأحمر حتى بانت ربلة ساقها،اتسعت عينيه دهشة وكاد أن يصفر بفمه لكنها استدارت هابطة بسرعة. كانت أمه في سبيلها إلى السطح،حاول أن يمرق من أمامها لكنه اصطدم بيدها التي أمسكت بياقته من الخلف، أخذ يتلوى وهو يضحك، قالت وهي تجذبه نحوها :
-ماذا كنت تفعل فوق السطح ،ليس عندك طيور هناك ، ها، ولاكتاب بيدك!. قال لها :
-لن أكذب عليك ياأمي، أنا فقط أرسلت بقبلة طائرة إلى بنت الجيران. عقدت الدهشة لسانها ، لكنه كان قد تلاشى من أمامها، وأخذ يقفز درجات السلم هابطا مثل الأرنب. استيقظ مبكرا في اليوم التالي، حاول الإفلات من رقابة عيني أمه التي كانت ترمقه مابين الحين والآخر ،لكن دون جدوى! هذه المرة اطالت جلوسها عند الفسحة الصغيرة الواقعة أسفل السلم، راحت تتناول فطورها الصباحي ببطء قاتل ، تنهد وهو يجلس القرفصاء أمامها، مد يده واقتطع من رغيفها قطعة غمسها بقدح الحليب الساخن ثم دسها في فمه، قالت :
-لم تفعلها من قبل، تأكل مع أمك! هذه أعجوبة. راحت تهز رأسها يمنة ويسرة كبندول الساعة، ضحك ثم قال :
-سأفعل ذلك كل يوم يا أمي العزيزة، علي ان أجلب بعض كتبي لأذاكر فوق السطح مادام الجو طيبا هذا الصباح. كانت في سبيلها لدس لقمة في فمها ،لكن اصابعها توقفت في الهواء ،قالت وهي تديم النظر في عينيه :
-قصدك حتى ترى البنت، تريد إرسال قبلة أخرى لها حتما! انظر،وجهك يحمر، أمسكت بك ياملعون.
-حاشا لله يا أمي، حاشا لله -وضع يده على صدره علامة الخشوع – بوسعك مراقبتي. هزت يدها، قالت وهي تواصل الضحك :
-أين أبوك ليرى إبنه الورع وكيف أصبح شيخا فاضلا فجأة، هيا أغرب إلى فوق، كنت امزح معك، أريدك أن تكون الأول في مدرستك -فردت يديها وراحت تدعو- سأنهض الآن لقضاء شؤون البيت. ما أن غابت أمه عن انظاره حتى قفز مثل الكنغر وهو يسابق خطواته، أخذ يحدق يمنة ويسرة وهو يراقب أسطح البيوت المجاورة بحذر، تقدم خطوتين للامام ثم رفع رأسه، باب السطح مفتوح، لكن البنت ليست هنا، دنا أكثر من حافة السياج، التفت للخلف فجأة وهبط بسرعة،اصاخ السمع من فرجة باب سطحهم، آه أمي الحلوة، حتما مشغولة، رفع يديه للسماء وهمس :
-يارب يطول انشغال أمي تحت، أكثر وأكثر. انتبه إلى أنه كان مضحكا في دعائه، أخذ يستغفر،لكنه تقدم بثبات صوب حافة السياج. مد رأسه، اصطدمت عينيه بالفراغ، تبا لحظي العاثر، هكذا همس لنفسه قبل أن يهبط مجددا، ما أن مست قدميه الأرض حتى تناهى إلى سمعه صوت خطوات ثقيلة خلفه، تعلق بحافة السياج ورفع رأسه، إنها هي بثوبها الأحمر الواسع الذي كان يخفق خلفها! راح يقلد صوت القطة! مط الكلمة ثم أطلقها، ميووو! التفتت بسرعة وتركت إناء إطعام الصيصان يهوي من بين يديها، انحنت بسرعة واطبقت اصابعها عليه، واصلت النظر إلى حافة السياج، لكن الرأس ذي الشعر الأجعد كان قد اختفى. كتم ضحكته وهو يرفع جسده عاليا، تفاجأ بعينيها الكبيرتين وهما تحدقان فيه بثبات، ماتت الميو في سقف حلقه، لكنه حاول ان يبتسم، ظلت تحدق فيه،فيما راحت اصابعها تلم ماتناثر من فتات الطعام، رفع يده وكاد أن يرسل قبلته المعتادة لكن صوت أمه من الخلف شل حركته تماما! كاد أن يتعثر وهو يهبط عن السياج، سمع ضحكة البنت وهي تلاحقه! بقي واقفا في مكانه، تقدمت أمه نحوه حتى كادت أن تلتصق به، لم يستطع النظر في عينيها، بقي خافض الرأس، أمسكت بأذنه وجذبتها بشدة، قالت بصوت خافت لكن غاضب ،وهي تشير صوب البنت خلف السياج :
-هذه البنت مجنونة! اجبرتني أن أقول لك هذا، لكنها مجنونة ياغبي والكل يعرف. لم يستطع النوم، راح يتقلب في سريره،كانت كلمات أمه حول ذات الثوب الأحمر تتردد في ذهنه، هذه البنت مجنونة، مجنونة ياغبي! هده التفكير، تذكر ابتسامتها، حركاتها العفوية، تقطيبة حاجبيها ثم صيصانها والأناء المسفوح على أرض السطح، ابتسم عندما تخيل ضحكتها الأخيرة، تبا لها! الملعونة، هل كانت تضحك منه! شعر بالظمأ، انسل حافيا للمطبخ، وهو يعود تناهى له صوت أمه تتحدث مع أبيه، كان موضوع الحديث يدور عنه! سمع أمه تقول :
-عليك أن تثبت وجودك يارجل، سيجلب لنا فضيحة هذا الولد الأحمق، أنه لايصدق بأن البنت مجنونة! لاحظت ذلك في عينيه. أتاه صوت أبيه، الله، كم كان حنونا وهو يقول لها :
-لايجب أن نضغط عليه، شاب ويمر بفترة حرجة، سأكلمه رجل لرجل!فقط لاتتدخلي انت. تسارعت الأحداث بعد ذلك بسرعة، لم تمض سوى أيام قلائل حتى رحل أبيه بهدوء، وجدوه ميتا في فراشه وقد ارتسمت على فمه بسمة صغيرة،خيمت الكآبة على المنزل، لكن الولد وأمه أصبحا أكثر التصاقا من ذي قبل،وما أن حل الشتاء حتى كانت أمه قد لحقت بأبيه هي الأخرى. أخذت عمته الوحيدة التي قدمت من الريف لأجله، تقوم على رعايته، لكنه كان قد أصبح شابا كبيرا حينها، ثم وجد إنه قد أصبح المالك لبيت كبير،أكمل دراسته بتفوق وفكر بأن يتزوج، البيت واسع لكنه ممتلئ بالوحشة. اصطحب عمته العانس الطيبة لتخطب له، لكن قبل أن يطرق الباب تذكر أمه، تنهد ولمعت عينيه،همس لنفسه :
-نعم يا أمي إنها هي، فقط باركيني، سأكون زوجا للمجنونة. بمرور الوقت أنجبت له المجنونة ذات العيون الكبيرة، أنجبت له بنتا حلوة، ثم تبادلا الأدوار، أصبحت هي تطعم البنت وهو يطعم الصيصان!!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى