قصة

صرخة قدم.

بقلم: ليلى المرّاني

مدينتنا الصغيرة ملقاةٌ على أطراف الحضارة، نسيها التاريخ، وابتلعتها السنون وهي لا تزال غافيةً، مستكينة، تتشابه أيامها وسنوها كبركةٍ راكدة، ليس فيها سوى ضجيج الصغار يتقاذفون الكرة في أزقتها الضيّقة، أو يلاحقون القطط والكلاب السائبة بحجارتهم، وقد يقع كلب مسكين بين أيديهم؛ فيسارعون إلى ربط ذيله بحبل طويل، يعلّقون به علباً معدنيةً فارغة، فتتعالى ضحكاتهم ويتقافزون وهم يطاردون الكلب؛ فتطلق العلب ضجيجاً صاخباً.
تحرّكت مياه بركتنا الراكدة يوماً، حين انشقت الأرض فجأةً وقذفتها بيننا، بشعرها المجعّد المنكوش، وقدميها الحافيتين، تنام في شقوقهما العقارب! كما تقول جدّاتنا، فتضاعف خوفنا منها ومن عقاربها.. أثار ظهورها كالقدر اللعين، لغطاً متواصلاً بين نساء مدينتنا، يتهامسن خلف الأبواب الموصدة: من هي؟ من أين جاءت؟ كيف وصلت إلى مدينتنا المنسيّة؟..
تهمس إحداهن بخوف،
– جاءت من ذلك البستان الذي يسكنه الجنّ والعفاريت..
تنفخ الأخرى بجيب صدرها بهلع: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لا تذكري الجنّ والعفاريت، ستخرج لنا..
ويتندّر الرجال ضاحكين..” كان ينقصنا واحدة مثلها، كي تكتمل الصورة..”
– سمعت أن ريحاً عاتية قذفت بها صوبنا..
يضحك رفيقه، ساخراً، – كيف تصدق ذلك؟.. لا.. هي خرجت من باطن الأرض..
يسمعهم الصغار؛ فيرتجفون هلعاً، ويصيح أحدهم بخوف،- أنا رأيتها تسقط من غيمةٍ سوداء مرّت فوقنا..
فيهمهم الكبار بارتياب، وتستمر الحكايات والتكهنات، وتصبح ذات الشعر الأسود الاشعث حديث البيوت، والمقهى، وفرن الخبز.. وحتى في المسجد الصغير بعد انتهاء الصلاة..
الصغار وجدوا فيها صيداًجديداً يقذفونه بما تطاله أيديهم من حجارة الشارع، تزأر عليهم كقطّ متوحش، تبصق عليهم ذُباباً أخضرَ يتطاير في الهواء.. يتراجعون، ثم يعاودون لعبتهم من جديد بلذّةٍ وحماس لا يخلو من خوفٍ وترقّب.. ” قدم أم كفشةِ السودة “، هتاف بدأوا يطلقونه عليها، لا احد يعرف من اختار لها هذا الاسم، هل كان حقاً اسمها، أم كونها تقطع شوارع المدينة حافيةً ليل نهار دون توقّف، تبحث عن شيء، ربما حجم قدميها الكبير أوحى لبعضهم هذا الأسم..
تكتفي بقطعة خبزٍ أو جزرة يلقيها أحدهم لها حين تجوب سوق المدينة ببطنٍ خاوية، تئنّ جوعاً.. ليلاً تتوسّد دكّة الجامع الصغير وتغطّ في نوم قلق، تقطعه رفسة أحد السكارى، أو قرصة حادة لفخذها العاري .. شيخ الجامع، الحاج مطر، يسمح لها أحياناً أن تنام في المدخل، على أن لا تتعدّاه، وقبل أن تبعث الشمس أوّل خيطٍ لها، يفتح الباب فتركض كالملسوعة وتبدأ جولتها اليوميّة، تلاحقها بعد حين
حجارة الصغار وصياحهم ضاحكين،” قدم أم كفشةِ السودة ”
همست إحداهنّ لصاحبتها: ألا تلاحظين أن ثوبها ضاق على بطنها الذي أخذ يكبر..؟
– أستغفر الله العظيم..
– انظري جيّداً، لم تعد قادرة على الركض..
– هههه، نعم.. أنت على حق.. كأنها حا.. أستغفر الله..
تضحكان بسخرية تشي بهواجسهما..
في المقهى، بين حين وحين يتساءل بعضهم: لماذا يأويها الحاج مطر في الجامع؟
فيغمز الآخر بطرف عينه: رأفةً بها.. رجلٌ صالح..
ويكتمان ضحكةً متشكّكة..
اختفت ( قدم ) فجأةً، كما ظهرت، وأخذ سؤال تلوكه الأفواه بريبة.. أين ذهبت.. هل ماتت.. هل استرجعها الجنيّ الذي رمى بها في مدينتنا..
وفي بستانٍ مهجور، عافه الكبار والصغار حين سرت شائعة أنّ الجنّ تسكنه، وتحت نخلةٍ عجفاء، لم يبقَ منها غير جذعها الهرم؛ تكوّرت ( قدم )، تموء بألمٍ كقطّةٍ جريحة.. تصرخ، تدفع بكلِّ ما تملك من قوّة.. تكزّ على أسنانها حتى كادت تنخلع.. سالت الدماء من يديها حين أشبعتهما عضّاً وتمزيقاً، وبعد صرخةٍ مزّقت السكون، تردد بكاء طفلٍ وليد، بنت بحجم قطةٍ للتوّ وُلدتْ .. تحتضنها، تقطع جزءاً من ثوبها الممزّق لتلفّها..
خلسةً، صباحاً، تتسلّل إلى المدينة التي لا تزال تغطّ في نومٍ عميق.. البرد سياط تجلد ظهرها، تشدّ صغيرتها إلى صدرها الخاوي، تطبع قبلةً على جبينها وتضعها على عتبة دار الثريّ العاقر وتهرب، تسابقها دموعها.. تختفي خلف شجرة بعيدة، تراقب، تتنفّس بعمق في محاولةٍ لخنق صرخةٍ كادت تفلت من فمها، حين رأت الباب يُفتح، يطلّ رجل عجوز، أشيب، ينظر إلى المولودة الباكية باستغراب.. تفتّش نظراته المتسائلة في جميع الاتجاهات، يدخل ثانيةً، يعود ومعه امرأة بدينة.. ترفع الطفلة، تنظر بحنان في وجهها، تخفق في قلبها لوعة أمومةٍ حرمت منها، تضمُّها إلى صدرها..
وتهرع ( قدم ) إلى البستان المهجور، ترتمي على الأرض، تحفن التراب وتقذفه على رأسها، وفِي الهواء تبعثره صرخاتٍ موجعة.. تطلق أصواتاً مبهمة، تنكفيء على وجهها.. تئنّ وتموء، كما قطّة اختطف صغارها..
رغم استمرار مطاردتها، والحجارة اللئيمة تستهدف قدميها كي تخرج منها العقارب! تأتي يوميّاً، تقف خلف سياج حديقة منزل الثريّ، تتلاحق أنفاسها، وتعود خائبةً إلى نخلتها العجفاء، حتى رأتها يوماً، بعد شهور.. اضطربت، خفق قلبها بعنف حتى كاد الصوت يصل مسامع المرأة البدينة، تلازم الطفلة كظلّها.. تسلّقت السياج الواطئ، مندفعةً بكلِّ جوع وحرمان أمومتها، احتضنت الصغيرة..صرخةّ مدوّية أطلقتها البدينة، هرع الخادم العجوز بعصاه..لم تشعر بدمائها حارّة تنزف من رأسها.. حملت جرحها النازف، واختفت.. أنينها ليلاً لا تزال نخيل البستان المهجور تردّده بعمق مخيف.. ينتشر في أزقّة المدينة وفوق سطوحها؛ فيهرع الصغار مذعورين إلى بيوتهم.. وتتمتم النساء، مرتجفاتٍ.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى