دراسات و مقالات

دراسة نقدية تحليلية ذرائعية لديوان (شاعر يرفض توقيع قصيدته ) للشاعر مجد الدين سعودي

الدراسة من إعداد الناقد الذرائعي : عبد الرحمان الصوفي

الجزء الأول
أولا : المقدمة


يعد التاريخ خزانا مهما كمنبع من منابع الإلهام الشعري ، الذي يعكس الشاعر من خلاله صورا شعرية ذاتية أو مجتمعية تساير روح العصر ، فيسير بناء الماضي ، وفق رؤية إنسانية معاصرة ، تكشف عن هموم الإنسان ومعاناته وطموحه وأحلامه ، وهذا يعني أن الماضي يعيش في الحاضر ويرتبط معه بعلاقة جدلية تعتمد على التأثير والتأثر . فيجعل النص الشعري ذا قيمة توثيقية يكسب حضورها دليلا محكما ، وبرهانا مفعما على كبرياء الأمة التليد وحاضرها المجيد ، أو حالات انكسارها الحضاري ومدى انعكاسه على الواقع الحاضر والمعاصر ، من خلال أوجه التشابه يبن أحداث الماضي ، وواقع العصر وظروفه ، إن سلبا أو إيجابا ، وفي هذا كله يطلق الشاعر العنان لنفسه وخياله لكي يكشف عن صدى صوت الجماعة ، وصدى نفسه في إطار الحقائق التاريخية العامة ، عرف هذا اللون الشعري تطورات ومسارات متعددة ، سواء قبل زمن ما قبل الحداثة أو زمن الحداثة وزمن ما بعد الحداثة …
كانت الحداثة أيديولوجية وأفكار شاملة يعتقد روادها أنها ستظل قائمة أبد الدهر ، مدعية أن لديها حلولا جاهزة لكل مشكلات العصر حاضره ومستقبله ، على اعتقاد أنها تملك مفاتيح الحقيقة المطلقة ، وعلى أنقاضها ظهرت نزعة ما بعد الحداثة راسمة مسار الحقيقة النسبية في كل ميادين الحياة الفكرية والعلمية والفنية والأدبية …
وإذا نظرنا إلى الشعر العربي لشعراء ما بعد الحداثة ، فإنه يبرز أمامنا بوضوح استخدامهم لتقنية القناع التي برعوا في استخدامه ، فتطورت بتطور التجارب الشعرية التي لاقت انتشارا واسعا ، ونعني بالقناع تقنية ما يصطلح على تسميته ( الإلماعية ) التي هي عبارة عن إشارة في القصيدة إلى شخصية أو حادثة أو أسطورة أو عمل أدبي ، بهدف استدراج القارئ لاستحضار صورتين متوازيتين قوامهما نص حاضر وآخر غائب أي المزج بين لحظتين تاريخيتين …
سنركز في دراستنا الذرائعية للديوان المعنون ب ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) لمجد الدين سعودي على المفاتيح التالية : ( ما بعد الحداثة – التاريخي – المضمر المسرحي – التصوف ) ، توكلنا على الله تعالى .
—————————————————–
ثانيا : توطئة :
جاء في الفصل السادس في كتاب ( الذرائعية ) في التطبيق للدكتور عبد الرزاق عودة الغالبي : ( إذا كانت الموسيقى لغة عالمية تفهمها وتتفاعل معها كل مخلوقات الكون من بشر وحيوان ونبات وجماد . وإن كان الأدب انعكاس وجدان الأديب على مرآة من ورق . يحدد ملامحه بقلم من فكر . يستمد مداده من روحه ومعتقده . جاعلا من تجاره الشخصية والعامة مخزونا لا ينضب . يضخه كلما ضغطته الحياة . فإن الشعر تحديدا هو متنفس النفس وحديث الروح ، والقلب للقلب ، والعقل للعقل ، حديث محمول على بساط من الخيال ، يطير بنا عبر الأثير ، ينقلنا مع آلامه ، ننتشي بانتصاراته ، نتأجج بحماسه ، نجاريه في عشق وولهة …
الشعر هوية ، إن لم نقل أنه بصمة يتفرد بها كل شاعر ، تتضافر في صنعها عدة عوامل شتى ، أو خلقيات مختلفة تنبت في تربة الشاعر الرسالية والنفسية والتربوية والإنسانية الأخلاقية ، وتشكل بالجمل شخصيته الإنسانية والفكرية التي توسمه كبصمة تميز ، ومنها ينطلق نحو الانتشاء والشهرة ، لذلك ليس من السهل أن تفهم أي عمل أدبي بمعزل عن هذه البصمة ، وهذا ما يسمى بالتكنيك ، أي بصمة الشاعر التي يتميز بها عن الآخرين ، فإن لم تكن موجودة فيه ، فهو إذا يقلد ، كما أنه ليس لنا أن نقيم العمل الأدبي ما لم يمتلك قاعدة نقدية عريضة ، تمكننا من الغوص في عمق أعماق العمل الأدبي دون وجل ، وفيها نتمكن من استخراج ما غاب عن الأنظار من مخبوءات في تلافيف وجدان الأديب عموما ، أو الشاعر خصوصا ، آخذين بعين الاعتبار أن الشاعر قد ائتمننا على دواخل الحشا ، وعيننا حراسا على نبضات وجدانه ، ووضع بين أيدينا عصارة فكره ومشاعره ، فلا نستسهل أو نستهين بما بين أيدينا ، بل علينا أن نحمله بمنتهى العناية ، ونتفحصه بكل اهتمام وعناية ، ونتعامل معه بكل احترام وتقدير) .
ثالثا : السيرة الذاتية للشاعر
الاسم : مجد الدين سعودي / من مواليد مدينة ( وادي زم ) / مدينة المقاومة والمناضلين .
الصفة : أديب وناقد وإعلامي / المدير المسؤول السابق عن موقع أنوال 24 الالكتروني
الإصدارات : ديوان شعر ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) ومجموعة قصصية ( وصف ما لا يوصف )
نشر الكاتب عدة دراسات أدبية ومسرحية وسينمائية في عدة جرائد ورقية مغربية .
قيد الطبع مسرحية وأعمال أدبية أخرى .
—————————————————–
رابعا : البؤرة الثابتة في نصوص ديوان ( شاعر يرفض توقيع قصيدته )
كما جاء في كتاب ( الذرائعية في التطبيق ) أن البؤرة الثابتة من صفات النص الرصين المتكامل للشروط النصية البنائية والجمالية لاحتوائه على إستاتيكية وديناميكية التنصيص في الأفكار والأيديولوجيات الإنسانية وحتى في الشكل البصري ، فنلتمس تلك الحطة ( البؤرة الثابتة في النصوص ) . للكاتب مجد الدين سعودي في ديوانه توجه فكري وأيديولوجي معارض لقوى الشر بكل مسمياتها والمتواجدة في مختلف مناحي الحياة ، يتميز بإستراتجية فكرية ونظرة خاصة إلى مجتمعه الصغير والكبير المنفتح على الإنساني وهي رسالة لإنسانية لا يتميز بها إلا الكتاب الكبار ، وتتضح البؤرة الثابتة من خلال فعل ( يرفض ) في العنوان ، والرفض تحث أيديولوجية معارضة لكل أشكال الفكر المسيطر .
من هذه البؤرة أنطلق إلى كشف مخبوءات النصوص من خلال الدلالات السيميائية والدلالات الرمزية والمعاني المؤجلة ، كنوافذ أناقش فيها نصوص الديوان .
خامسا : الاحتمالات المتحركة ، أو ديناميكية النصوص في الديوان
-غلاف ديوان ( شاعر يرفض توقيع قصيدته )
غلاف الديوان لونه أسود ، وهذا اللون من أكثر الألوان شهرة وتفضيلا لدى أغلب الناس ، حيث يعتبر ملك الألوان ، ويستعمل بكثرة في الطباعة لتأثيره الواضح والقوي ، يحمل اللون الأسود العديد من المعاني والدلالات والتفسيرات ، يرتبط جانب منها بالإيجابي ، وجانب آخر بالسلبي ، فهو يترافق مع الشر والموت والغموض . يتوسط اللون الأسود دائرة كروية الشكل ، مقسمة إلى قسمين ، قسم يتكون من ماء وتراب ، والقسم الثاني من لهيب نار …الدائرة نبض حقيقي لعدة قضايا إنسانية ، إنها تدخل ضمن المنطلق الإيماني بالقدر خيره وشره ، وحياتها مليئة بالدلالات التشكيلية والفلسفية والوجودية …التشكيل الدائري يحمل الكثير من المتضادات والمتناقضات ، لا غنى عنها سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل …والدائرة لغة تعني الهزيمة والسوء والشر الكثير ، يقول الله عز وجل في كتابه العزيز : ( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء والله سميع عليم ) التوبة آية 98 . مكونات الكرة التي تتوسط واجهة غلاف الديوان تدخل ضمن مكونات العالم في الفلسفة ( النار ، الماء ، الهواء ، التراب ) ، وقد تطرقت لهذه المكوات العديد من المدارس الفلسفية .
-عنوان الديوان ( شاعر يرفض توقيع قصيدته )
عنوان يستفز القارئ ، فيجعله يطرح عدة أسئلة منها ، لماذا يرفض الشاعر توقيع قصيدته ؟ ، وهل قصيدته طلبت منها التوقيع ؟ ، وهل القصيدة تحتاج إلى توقيع ؟ ، هل التوقيع هو القصيدة ؟ وغيرها من الأسئلة التي سنحاول إيجاد أجوبة عنها ونحن نغوص في أعماق قصائد الديوان .
وضمن بنية العنوان تفاجئنا ( مكاشفات شعرية ) ، والكاشفات مصطلح صوفي يحمل في طياته التداخل والامتداد والتوالد الدلالي ، تجعل القارئ يتوغل بعيد في منافي اللغة الصوفية ومعجمها ، ( مكاشفات ) من باب تطويع العبارة والارتقاء بها إلى حياة الإشارة المنفتحة على المتن الشعري في نصوص الديوان . المكاشفات عند المتصوفة إشراقة تنتهي بالسالك إلى كشف وارتفاع الحجب والارتواء برؤية المحجوب ، فإذا كان البصر يمكن الرائي من مشاهدة الأشياء المحسوسة ، فإن قوة البصيرة لدى العارف تمكنه من خرق الحجب ( الظاهر / الباطن ) .
فهل ستسلك قصائد الديوان طريق المكاشفات الصوفية ؟ ذلك دافع من دوافع غوصنا في قصائد ديوان ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) .
جاء في كلمة الإهداء ما يلي : ( واعلم – رحمك الله – يا رفيقي … وكن رفيقا ل ( ابن الرومي – وابن القارض – وابن أمية – وابن عربي – وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه – والتبريزي – والحلاج …) . على ضوء فكر هؤلاء ستتم دراستنا الذرائعية للاحتمالات المتحركة للنصوص الديوان ، والتي قسمناها إلى قسمين ( المقام الأول / مكاشفات النعيم ، المقام الثاني / مكاشفات الجحيم ) .
-الإهداء في الديوان
يدخل الإهداء في الديوان عند مجد الدين سعودي ، فيما يمكن توصيفه ( ما قبل النص ) له قيمة تعليقية رمزية ، نتعرف من خلالها قصة وهدف العمل الأدبي ، بما فيها من ظروف وحيثيات أججت الإبداع ، وجعلت منه شعلة متقدة ، ونظرا لأهمية الإهداء كأداة من أدوات حفرنا وغوصنا في نصوص الديوان ، نقدم للقراء كاملا ، وكما جاء في الصفحة (3) من الديوان :
الإهداء : ( واعلم – رحمة الله – يا رفيقي ، أن الحياة الفانية ستضيق بك وستعيش المعاناة والجور والقلق والتوزيع الغير عادل للثروة ووأد الثورة في مهدها ، فالتجأ يا رفيقي إلى العشق ليفعم قلبك بالأمل والتمرد ، والتجأ إلى المناجاة الكاشفة ، كن رفيقا للحياة لتكون الحياة رفيقة لك مدى الحياة …وكن رفيقا لابن الرومي ، وابن الفارض ، وابن أمية ، ابن عربي ، ابن طفيل ، علي بن أبي طالب ، التبريزي ، الحلاج …واعشق المقامات والحلول والاتحاد ، وكن للحلاج سندا ونصيرا ، فالحسين بن منصور الحلاج ، سيد المتصوفة ، والذي إذا تكلم أفاض ، وإن أحب فنى في عشق المحبوب ، وهام في ملكوت المعرفة …واعلم سيدي الحلاج ، أن شطحاتك روحية وسامية ، ولهذا أوصي كل صديق أن يكون حليما وقت الشدة ، عاشقا في وقت الضيق ، ثائرا وقت الخضوع والخنوع ، كاشفا للحق وجاهزا للحق …إلى كل رفيق ثائر وعاشق للربيع ومحب للمعرفة وسيف على رقاب الظالمين …اهدي مجموعتي الشعرية ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) .
-المقام الأول / مكاشفات النعيم
للفرد المبدع سلطة مطلقة على اللغة بحيث يتحكم فيها ويتصرف كذلك فيها بحرية وإرادة دون إكراه أو إرغام ، فاللغة لسان يحمل سلطة اجتماعية محايثة له ، وهذه السلطة قائمة على الفعل في اللغة ، والتي هي الخاصية المميزة للإنسان ، فتكشف عنه ككائن مفكر عاقل ، بل هي نمط حياته المجتمعية ، والفكر لا وجود له خارج اللغة ، لكن هل اللغة تعبير شفاف وكشاف تواصلي كامل النوايا والمقاصد ؟ وبعبارة أخرى ألا تصير اللغة وسيلة للإخفاء والتمويه ؟ هل توحد اللغة البشر أم تفرقهم ؟ الأجوبة على هذه الأسئلة وغيرها ، ستكون في صلب اهتمامنا ونحن نغوص في هذه المكاشفات …
المقام الأرض الخصبة والتجربة الوجدانية الوجودية ، ذات أبعاد دينية وميتافيزيقية ، تبدأ بخروج الإنسان من نعيم الجنة وهبوطه إلى الأرض ، عالم المتناقضات المتفاعلة في استمرار الحياة ، فيصبح مقام النعيم الرغبة الدفينة والملحة على عودة الإنسان إلى أصل النعيم .
لنلاحظ القصيدة المعنونة ب( إ شراقات ( الكفة الأخرى ) ، تبتدئ أول هام بقول جلال الدين الرومي ( واعلم عظمة العشاق …من أعظم ما يعشقون ) ، ثم تبدأ القصيدة التي جاء في قفلتها الأولى الآتي :
في كفة
اجتمعت نساء العالم
دخلن الحمام للمكاشفة
تعرين
وتحدثن عن اللمس
والبخار والجنس
أزلن الأوساخ وأرحن الأبدان
ارتحن من عناء العمر
واسترحن من الأشجان
والكلام المباح )
دائرة مقنعة يحضر فيها جلال الدين الرومي ، عالم فقه الحنفية والخلاف وأنواع العلوم والتصوف ، والشاعر الملتزم بتعاليم الدين الإسلامي السمحة ، حيت استطاع بها جذب أشخاصا من ديانات أخرى …عرفت أشعاره بالموسيقى الروحية المساعدة المريد على تعرف الله والتعلق به وحده .
الحمام الجماعي أصبح في القصيدة مقاما يجمع الروح والنفس والقلب والسر ، وهي أسماء لمسمى واحد هي الكفة الأخرى التي جمعت نساء العالم ، الروح في الجسم هي البحر اللطيف ، أما النفس فهي منبع الأخلاق بنوعيها الجميل والقبيح . ثنائية النفس / الجسد من باب تمجد النفس والعقل وتحتقر الجسد من خلال تجاوز عوائق تطهير النفس من الرذائل والشهوات الرديئة والنزوات الفاحشة التي تعلق بها . بحيث لا يصير العقل والهوى على طرفي نقيض .
جاء في قصيدة (واو النسوة : أنوار وأسرار ) في القفلة الأولى التي افتتحها الشاعر مجد الدين سعودي ببيت شعر لابن الفارض الملقب بسلطان العاشقين ، وهو من أعلام الصوفية …شعره مرآة صادقة تعكس على صفحاتها أذواقه التي خضعت له نفسه في سبيل الحب الإلهي ، ويعد شعره تراثا روحيا خالدا ، يحقق أعلى أشكال التاريخ غنى وتنوعا ، وهذه الأشكال القصوى لم تكن أبدا من صنع ثقافات معزولة ، بل من صنع ثقافات تنسق قصدا أو بغير قصد ، وكل ثقافة تظهر متحالفة مع ثقافات أخرى ، فيتيح الأمر تشييد سلسلة من التطورات الغنية والمتنوعة …يقول الشاعر مجد الدين سعودي في ( واو النشوة : أنوار وأسرار ) :
حدثنا الواو
صعدت سبع سماوات
رأى فيما رأى
الملائكة
والطيور
يستقبلونه
بأحلى الابتسامات
والزغاريد والهتافات
وهو فيما يرى
ينتشي عشقا
والملكوت
يفرش أرضه
بكل أنواع الهيام
ونكران الذات
اتخذ حرف الواو رمزية الإنسان المتحدث ( حدثنا الواو) …فترج أخبار عن السموات وهي عالم دلالي في القصيدة ذات أبعاد متداخلة وكثيرة تحلق بالنفس الإنسانية في العالم المحيط بها ، وكذلك تحيق الإنسان في إنسانيته وعوالمه الداخلية . إن الفكر ليس شيئا داخليا فقط ، بل يوجد خارج العالم والكلمات ، فهما يتكونان معا وفي آن واحد . اللغة تسمح بالانتقال مما نعلمه الى ما نجهله مع قابليتها للتمدد لتشمل ما لا نهاية له من الأشياء . والحكم الصادق للعقل ما تتطابق مع الواقع ، الحق لا يتضاد مع الحق بل يشهد عليه ، من منطلق أن التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى المجازية ، من غير أن يخل ذلك بعادة اللسان العرب ، ونقطع قطعا أن كل ما أدى إلى البرهان ، وخالفه ظاهر الشرع ، فإن ذلك يقبل التأويل ، وهي قضية لا يرتاب منها العقل حين يكون القصد الجمع بين المعقول والمنقول ، وهما موضوع قصيدة ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) .
يقول الشاعر في قصيدة ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) في القفلة الثانية والتي افتتحها بقولة لابن أمية .
( يوما كنت شيخ الطريقة
وكانت المريدة
فأصبحت هي الطريقة
وأنت الطريدة
وأنت الناسخ والمنسوخ
وأنت الناقل والمنقول
وأنت المتصرف في محرابها
والتابع لملكوتها
بعد أن تهاوت مملكتك
وسقطت هيبتك
فاعلن يا هذا الاستقالة
ففي العشق لم تعد شيخ الطريقة )
إن النفس تسير وعالم عقلها راسمة صورة الكل متماشية مع نظام المعقول ، ترى الخير الفائض في الكل ، لكي تستوفي نفسها هيأت الوجود كله لصالحها ، فيصبح العالم النفسي متوازيا للعالم الموجود كله ، مشاهدة لما هو المطلق والخير المطلق والجمال الحق متحدة به ومنتقشة بمثاله وهيأته ، ومنخرطة في سلكه ، وصائرة من جوهره ، وإذا بلغت القوة العقلية مبلغ النفس من الكمال ، فارقت البدن باحثة عن الاستكمال التام الذي لها أن تبلغه من خلال العشق الذي يتسع في الصورة التي يقع التجلي والحلول ، حيث تصل لذة العشق أجمل من كل لذة .
نكتفي بهذه النماذج من قصائد ( المقام الأول/ مكاشفات النعيم ) ، وننتقل لنسائل المقام الثاني أو الكفة الأخرى المعنون ب ( مكاشفات الجحيم ) بمنطق الحقيقة في الفلسفة وفي الفكر الإسلامي ، التي تعددت الآراء والأفكار حولها …
-المقام الثاني : مكاشفات الجحيم
ظلت الحقيقة موضوع جدال ونقاش في الفلسفة ، فأفلاطون قسمها إلى قسمين ، عالم المثل ، وعالم الظلال ، أما أرسطو فاعتبرها واقعا محايثا للعالم المادي المحسوس ، أما ديكارت فيعتبر الواقع الحقيقي ما أتبته العقل ، أو منهج الشك المعروف عند العقلانين ، أما جون لوك زعيم التجربيين فيعتبر المبادئ القبلية لا واقع لها ، فالإنسان عنده صفحة بيضاء ، أما إيمانويل كانت فيعتقد أن الحقيقة تكون بالحس وحده لا بالعقل ، أما هايدغر فيتجاوز الحقيقة التقليدية التي مطابقة للواقع ، فيقر على أن الحقيقة هي الحرية ، أما ميشال فوكو فتظهر له الحقيقة داخل المجتمع وليس من خارجه ، أي أن المجتمع ينتجها بنظامه المعرفي وسلطته الاجتماعية ، أما نيتشه فيعتبر الحقيقة وهما ، أما باشلار فيعتبر الحقيقة خطأ تم تصحيحه بسبب تراجع الحقيقة العلمية عن يقينياتها ، ويأتي أبن رشد الذي أعتبر الحقيقة واحدة ، ولكن الناس تخفق في الوصول إليها …
يقول الشاعر في قصيدة ( ملحمة النيل ) ابتدأها بقولة لابن عربي : ( كانت الأرحام أوطانا ، فاغتربنا عنها بالولادة ) الفرعون تحتمس 3
( تعودنا على السمع والطاعة العظيمة
ورثنا التكريس
وعبارات التقديس
وفراعنة النيل
يغتصبون
يقتلون
ولهم عدة مآرب في التكديس
فأنا العظيم
وأنتم العبيد
أنا السيد
والفيودال
والمال
وأنتم الأتباع
تحسر الرفيق الشاعر لبيد وأنشد :
( ألا كل شيء ما خلا الله باطل )
تتصادم قوى الخير والشر تحت مظلة صراع أيديولوجي في كل مناحي الحياة ، وقد يحدث هذا الصراع داخل نفسية الفرد أو الجماعة ، صراعات لا تعد أو تحصى نتيجة التضاد المتأجج الذي يعبر عنه طبيعيا لإحداث توازن في مثل هذا التباين ، أو لنقل التوازن بين الرغبة والامتناع ، وبين النور والظلمة وبين الكذب والصدق والحقيقة والظلال . طبيعة النفس البشرية مزدوجة لأنها خلقت من مادة كثيفة وروح شفافة وباستعدادات متساوية لقبول الخير والشر إلا أن الصراع بينهما سيبقى دائما قتالا عنيفا ، لأنه عندما خلق الله الإنسان جعل فيه القابلية للخير والشر معا وأعطاه العقل السليم ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ( الشر كامن في طبيعة كل واحد ، فإن غلبه صاحبه بطن ، وإن لم يغلبه ظهر . )
وجاء في نفس القصيدة القفلة الثامنة :
( كنا رعاة
نخاف القمر وأكاذيب ( رع )
والكهنة
يبيعوننا الأوهام
ولا شيء غير الظلام
والظلام
و
والظلام
……… )
الملحمة ………بحث / ناقص
يحضى الفن المسرحي بوضعية سيميائية داخل مملكة الفنون ، فهو ينتمي في الآن ذاته إلى فنون الزمان شأن الأدب والموسيقي …وينتمي كذلك إلى فنون المكان شأن الرسم والنحت والتصوير …نلمس الجانب المسرحي الحاضر بقوة في كل نصوص الديوان ولو بطرقة مضمرة ما دام المسرح مدرسة الشاعر الأولى التي اطلع من خلالها على مملكة الفنون . ومادامت الرسالة المسرحة تحمل علامات كثيرة مشفرة ومتباينة فإنها تشتغل بشكل متزامن مع نصوص الديوان .
تبتدئ قصيدة ( رسالة البهتان ) / القفلة الأولى ، بقولة لجلال الدين الرومي : ( كم هم سعداء أولئك الذين يتخلصون من الأغلال التي ترسخ بها حياتهم ) …
( قال الناطق الرسمي باسم الكلام
قال الناطق الرسمي بسم الكلام
( ممنوع الكلام)

حدثنا حسام
عن الزعيم الهمام
قال :
يبلغ الزعيم المسكين
من العمر السبعين
ابتدأ النضال
وهو في بطن أمه
خرج إلى الحياة
تاجر في كل شيء
أول صفاته :
بيع الضمير
بمال وفير
وربما يسير
فناضل فينا
وبالجملة باعنا
وللسجن نحن دخلنا
وكان
يملأ الدنيا زعيقا
ونهيقا :
( السجن للشرفاء )
والحرية لأمثاله الجبناء )
حب السلطة والجاه والمال من الشهوات الراسخة في ذهن الإنسان ، سطوتها ونفوذها وخطورتها لها أثر كبير على عمارة الأرض والضمير الإنساني والقيم الأخلاقية …حب التحكم في الناس يتم عبر كل الأساليب في المغرب والعالم العربي بالخصوص ، بالمال والنفوذ وبيع الضمائر وكل الوسائل المتاحة لإبقاء السيطرة في يد القوى المتحكمة في السياسة والاقتصاد والمجتمع ، فسيادة التهافت على السلطة سائدة في هذه المجتمعات حيث لا يعلو صوت فوق صوتها ، فالرئيس والوزير والمدير والأستاذ والأب يمارسون سلطتهم المطلقة قد يظلمون ويفجرون ويتجاهلون حقوق الآخرين وآرائهم وأفكارهم ، الفكر المتسلط يحدد ويقيد سلوكات الناس وينعكس على قراراتهم وحياتهم …
جاء في قصيدة ( خلوة الشخيري ) / القفلة الرابعة بقولة للحلاج : ( …وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبا لدينك ، وتقربا إليك .. فاغفر لهم فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي ، لما فعلوا ما فعلوا ، ولو سترت عني ما سترت عنهم لما ابتليت . فلك الحمد فيما تفعل ، ولك الحمد فيما تريد …) …
( ساعة أضيفت
فصمت عن العبادة
ومن هول الزيادة
خرجت مني ريح
واستراحت مني الشهوة
وماتت في النخوة
وعافت نفسي
نفسي
فيا لهول الساعة
عندما تقوم القيامة
ويسألني الرب عن العبادة
عن المتعة واللذة
فأقول :
أفسدت شهوتي تلك الساعة
وضعت
وتهت
ومت
بين النقصان والزيادة
لأعيش الجنس بريادة
بمحبة وزيادة )
يستحضر الشاعر مجد الدين سعودي شخصية الحلاج المروية بالدم في القرن الرابع الهجري ، لا ليروي لنا حدثا تاريخيا فاجعا ، وإنما ليعيد الإشارة إلى النهج الصوفي المعتمد على الكشف واليقين .. واجه الحلاج الموت بنفس التردد الذي واجه به الحياة ، لأن النزعة الصوفية ليست ظاهرة فردية تنتمي لعالم روحي منفصل عن العالم الواقعي ، وإنما ظاهرة اجتماعية مثلت ردا على المظالم الحياتية ، وتكيفت معها لطبيعة الأوضاع السياسية والاجتماعية . تفيض تجليات التجربة الصوفية على مختلف مناحي الحياة ، حيث نجد الكثير من الشعراء تأثروا بالمنهج السلوكي الصوفي لما يحمله من دلالات رمزية حيث يتماشى الرمز الصوفي الدال على الحال في توتراته المختلفة والدائمة وقلقه المتواصل .
—————————————————–
سادسا : درجة الانزياح والعمق نحو الخيال والرمز
الانزياح في الشعر هو البعد عن مطابق الكلام للواقع باستخدام عبارات متعددة ومختلفة عن المألوف منها الرمز بأشكاله وعلم البيان والبديع والخيال ، يتمثل في تغيرات لغوية فنية تنضج على جسد النصوص الشعرية ، فتضفي عليه مسحة من الإبداع والجمال اللغوي ، حسب قدرة الشاعر على استعمال الخيال ، وقد عبر التراث العربي عن الانزياح ب ( العدول ) ، وهو أسلوب في الفنون الشعرية الحديثة ، لنتأمل ما جاء في قصيدة ( استيقظ لتراك ) :
( قال الراعي
وأنتم الغنم
ولي العصا
أهش بها على الغنم
ولي فيها مآرب أخرى
في بعض الأحيان
أجعلكم تصدقون
أنني ساحر
وأجعلها حية تسعى
ووراءهم سأسعى
وأرد الحية حبلا
وللمشانق ستتجلى
فهيئوا أعناقكم
واكتبوا وصاياكم .)
اللغة في الشعر خاصة ، كلما انزاحت زرعت فيها الحياة ، والانزياح درجات ، ويصل ذروته حين يصل درجة الغموض ، أو ما يطلق عليه ب ( التعمية ) ، وهذه الأخيرة ينعت بها الشعر الصوفي . كلما نزل الانزياح نحو اللغة العادية من الشعر إلا وقل الانزياح . نلتمس لدى الشاعر مقدرو كبيرة في استخدام الرمز، بما يخدم أفكار النصوص في الديوان ، وهذه صنعة تحسب للشاعر ، معتمدا الألفاظ السهلة ، لكن التراكيب هي من ملكت صفات العمق والفاعلية ، يملك الشاعر قدرة كبيرة على التلاعب بالألفاظ مكنه من صناعة الكلام ، بمستوى لغوي جيد .
————————————————————-
خامسا : المدخل البصري
ديوان ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) ، عنوان مستفز بصريا يطرح على القارئ عدة أسئلة قبلية . جزء من جواب عن هذه الأسئلة مدون أسفل غلاف اللوحة ( مكاشفات شعرية ) ، الديوان يضم في 164 صفحة من الحجم المتوسط ، يبتدئ بإهداء مستفز بدوره بصريا ( واعلم – رحمك الله – يا رفيقي …) ، الفهرس بدوره خرج عن المألوف الذي عهدناه في دواوين الشعر وغيرها ،
الفهرس مقسم إلى جزأين ، (المقام الأول / مكاشفات النعيم ) ، والمقام الثاني / مكاشفات الجحيم ) .
المقام الأول / مكاشفات النعيم يضم ثلاثة عشر نصا شعريا ، تحمل العناوين التالية : ( اشراقات الكفة الأخرى ) ، ( واو النشوة : أنوار وأسرار) ، ( خط أحمر : عشق أحمر ) ، ( شاعر يرفض توقيع قصيدته ) ، ( خمرة الحب ) ، ( وما أنا بقارئ ) ، ( مذاقات قدسية لسيدة الياسمين ) ، ( سلام حتى مطلع العشق ) ، ( والعشق واحد ) ، ( سيدة النجوى الحزينة ) ، ( نرجس والبلوى ) ، ( الشال الأحمر والتقوى ) ، ( رقصة عشق أبدية ) ، تمتد هذه النصوص من الصفحة ( 6 ) إلى الصفحة ( 86 ) .
المقام الثاني / مكاشفات الجحيم يضم بدوره ثلاثة عشر نصا شعريا ، تحمل العناوين التالية : ( ملحمة النيل ) ، ( رسالة البهتان ) ، ( خلوة الشخيري ) ، ( شر البلية ) ، ( أحلام تتهاوى ) ، ( وادي زم : غربة وطن ) ، ( هل ينام القمر ؟ ) ، ( الولد وما ولد ) ، ( ولن تضل الطريق ) ، ( حي بن يقضان في مملكة الفناء ) ، ( أعز ما يكتب ) ، ( استيقظ لتراك ) ، ( ضاقت العبارة ) ، تمتد هذه النصوص الشعرية من الصفحة (88) إلى الصفحة ( 161 ) .
وضع الشاعر مجد الدين سعودي خاتمة معنونة ب ( وأسدل الستار ) نثرا ، وهي خاتمة أبقت على باب استفزاز القارئ بصريا مفتوحا .
كل نصوص الديوان مجزأة إلى وحدات أو قفلات تحمل أرقاما عربية ، مع حضور مكثف لعلامات الترقيم بكل أنواعها …
1 – التجنيس الأدبي
مرأى النص العربي يستفز القارئ من حيث شكله البصري المكون له ، وهو مشهد سحري يحمله النص كجنس أدبي ظاهر ، وشكله الأنيق المتزن ، فالجنس الأدبي في النص العربي مختلف تماما عن جميع النصوص بصريا في اللغات الأخرى ، شكلا وصورة ، فلو أخذنا شكل كل جنس لوجدناه يلبس أردية مختلفة من جنس إلى آخر ، فالمقامة مسجوعة ، والقريض معمد بعمودين ، أما الحر فهو عمود يضيق ويتسع ، أما الشعر النثري فالمنطوق الشعري يترصد نفسية الشاعر وعاطفته .
—————————————————-
سادسا : البيئة الشعرية
لقد أثار التصوف الإسلامي جدلا كبيرا المستشرقين والباحثين العرب والمسلمين حول البيئة الشعرية للتصوف ومفهومه ومواضيعه ومصطلحا ته ومصادره وأبعاده المنهجية والمرجعية . ترتكز البيئة الشعرية للديوان على ثلاثة ركائز وهي الكتابة والمعجم الصوفي ، والممارسة الروحية وحقلها الدلالي ، وتحرك هذه الركائز هيمنة المادة على عقل الإنسان المعاصر وما يعرفه العالم من انحطاط للقيم الأخلاقية ، وانتشار للأهواء والنحل والصراعات الأيديولوجية حول السلطة ، والتهافت حول المكاسب الدنيوية ، وأمام كل هذا لم يجد الإنسان طريقا غير الارتماء في أحضان التصوف والدخول في الممارسة العرفانية قصد الحصول على السعادة الوجدانية والراحة النفسية .
———————————————-
سابعا : خاتمة الجزء الأول
الناقد والمنقود والقارئ يتكامل هذا الثلاثي عند وجود مادة القراءة التي هي أما أن تكون المادة الأصلية أو الناقدة المبنية عليها ، الكاتب المبدع هو أصلا ناقد لذاته فلا يخرج إلا الإبداعات التي يكون قد رضي عليها ، أو مرت عبر مصفاة النقد الذاتي ، ولا بد للناقد كذلك أن يكون كاتبا مبدعا يعتمد على إدراكه وفهمه وإحساسه بمادة النقد من خلال حسه المرهف ووعيه وثقافته ، من هنا لابد لتلك العملية من وجود القارئ ومادة القراءة التي يتفاعل معها ، وهذه من الأسباب التي دفعتنا لتجزيء الدراسة إلى قسمين ، نشرنا الجزء الأول وسيتبع إن شاء بالجزء الثاني الذي يتضمن مداخل جد هامة وبها تكتمل الدراسة الذرائعية في التطبيق على النصوص الأدبية العربية .
——————————————

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى