دراسات و مقالات

شاعر الغزل الرقيق / بهاء الدين زهير – 581: 656 هـ

السعيد عبد العاطي مبارك

ألا إن عندي عاشق السمر غالط وأن الملاح البيض أبهى وأبهج
وإني لأهوى كل بيضاء غادة يضيء بها وجه وثغر مفلج
وحسبي أني أتبع الحق في الهوى ولا شك أن الحق أبيض أبلج
———-

ما أصعب الحاجة للناس فالغنم منهم راحة الياس
لم يبق في الناس مواس لمن يظهر شكواه ولا آس
وبعد ذا مالك عنهم غنى لا بد للناس من الناس

مازال ديوان العرب – الشعر – الخالد ينطق بالحكمة و الحب و الغزل و همومنا اليومية يحمل رسالة الانسانية عبر العصور و الأمصار يهطل بقصائده العصماء من كل لون يعطرنا بأغراضه الجميلة مع صيرورة الحياة . 
و ها نحن نتجول مع الشعر في العصر الأيوبي بكل مقوماته الفنية التي تستوحي لوحاتها من عبقرية الماضي التليد ، لنقف مع شاعر وهب نفسه للغزل في رقة فائقة الوجدان يعزف لحن الهوي بعيدا عن الضبابية يغني لكل المحاسن في صفحة مشرقة غراء لا يلتفت الي ما ينغص صفو العيش ، و من ثم جاءت مطوعاته تفوح بأريج العشق مع براح العمر ينشد منظومة الكمال في تلقائية فريدة أنه ” شاعر الغزل الرقيق – البهاء زهير ” الذي عاصر الملك الصالح و العهد الايوبي و نظر الي حطين و ظلال صلاح الدين . 
يقول البهاء زهير في مقطوعة غزلية رقيقة مخاطبا فاطمة رمز الحب و الجمال مذكرنا بالملك الضليل امرؤ القيس و غرامياته مع محبوبته فاطمة من قبل : 
أفاطِمَ! ما أنْسَى نُعاسٌ وَلا سُرًى عَقابِيلَ، يَلْقَانَا مِرَاراً غَرَامُهَا
لِعَيْنَيكِ وَالثّغْرِ الّذي خِلْتُ أنّهُ تَحَدّرَ مِنْ غَرَّاءَ بِيضٍ غَمامُهَا
وَذَكّرَنِيهَا أنْ سَمِعْتُ حَمَامَةً بكَتْ فبكى فوْقَ الغُصُونِ حَمامُهَا

نشــــــــــأته :
————-
هو أبو الفضل زهير بن محمد بن علي المهلبي، المعروف ببهاء الدين. ينتهي بنسبه إلى المهلب بن أبي صفرة.
وُلد بمكة أو بوادي نخلة، وهو بالقرب من مكة، في خامس ذي الحجة سنة إحدى وثمانين وخمسمائة،
ولما شب توجه إلى مصر ، واتصل بالسلطان الملك الصالح، نجم الدين أبي الفتح أيوب ابن الملك الكامل. 
ثم توجه في خدمته إلى البلاد الشرقية، وأقام بها إلى أن ملك الملك الصالح مدينة دمشق، فانتقل شاعرنا إليها وأقام يخدم الملك ويمدحه.
ولما مات الملك الصالح، انقطع في داره بمصر إلى أن انتشر مرض عظيم لم يصفه ابن خلكان في ترجمته للبهاء، ولعله الطاعون أو الهواء الأصفر، وإنما قال إنه لم يسلم منه أحد، وأصيب البهاء به وأقام أياماً ثم توفي قبيل المغرب يوم الأحد في رابع ذي القعدة سنة ست وخمسين وستمائة، ودفن في الغد، بعد صلاة الظهر، بالقرافة الصغرى في تربة بالقرب من الإمام الشافعي في جهتها القبلية.
ديوانه الشعري : 
——-
وللبهاء زهير ديوان شعر حققه ونشره المستشرق البريطاني إدوارد هنري بلمر سنة 1876 كما نقله إلى الإنجليزية نظمًا. 
ثم نشرته دار صادر – دار بيروت سنة 1964 على حروف المعجم .
أكثره في الغزل وأقله في المدح والرثاء والهجاء والوصف، وشعره رقيق لطيف 
وهو يتعمّد الصناعة والبديع، ويستخدم أنواع البديع: الجناس، والتورية، والتهكم، خصوصاً الاكتفاء
مع نبوغه الشعري :
———-
لما ظهر نبوغه وشاعريته التفت إليه الحكام بقوص فأسبغوا عليه النعماء وأسبغ عليهم القصائد. وطار ذكره في البلاد وإلى بني أيوب فخصوه بعينايتهم وخصهم بكثير من مدائحه. توثقت صلة بينه وبين الملك الصالح أيوب ويذكر أنه استصحبه معه في رحلاته إلى الشام وأرمينية وبلاد العرب. 
وجهان للعشق و الحزن يدور حولهما البهاء زهير . 
فيقول : 
تعيشُ أنتَ وتبقى أنا الذي مُتُّ حقا
حاشاكَ يا نورَ عَني تلقى الذي أنا القى
قد كان ما كان مني واللهُ خَيرٌ وأبْقى

و قد رثي ولده في قصيده شجية تهز القلب حزنا و كمدا علي فراق فلذة كبده فيقول البهاء زهير الشاعر الرقيق منها و هي مطولة و قد أوردتها كاملة في كتابي ” رثاء الأبناء في الشعر العربي ” حيث أنها تعد من عيون الرثاء في الشعر العربي و لا سيماء رثاء الأبناء فهي صادقة الغرض و مؤثرة تنساب في شجن مع حادثة الليالي : 
نهاكَ عنِ الغواية ِ ما نهاكا وَذُقْتَ منَ الصّبابَة ِ ما كَفاكَا
وطالَ سُرَاكَ في لَيلِ التّصَابي وقد أصبحتَ لم تحمدْ سراكا
فَلا تَجزَعْ لحادِثَة ِ اللّيالي وَقُل لي إن جزِعتَ فما عَساكَا
وكيفَ تلومُ حادثة ً وفيها تبينَ منْ أحبكَ أوْ قلاكا
برُوحي مَنْ تَذوبُ عليهِ رُوحي وَذُقْ يا قلبُ ما صَنَعَتْ يداكَا
لعمري كنتَ عن هذا غنياً ولم تعرفْ ضلالكَ من هداكا
ضنيتُ منَ الهوى وشقيتُ منهُ وأنتَ تجيبُ كلَّ هوى ً دعاكا
فدعْ يا قلبُ ما قد كنتَ فيهِ ألَستَ ترَى حَبيبَكَ قد جَفاكَا
لقد بلغتْ بهِ روحي التراقي وَقد نَظَرَتْ بهِ عَيني الهَلاكَا
فيا مَنْ غابَ عني وَهوَ رُوحي وكيفَ أُطيقُ مِنْ رُوحي انفِكاكا
حبيبي كيفَ حتى غبتَ عني أتَعْلَمُ أنّ لي أحَداً سِوَاكَا
أراكَ هجرتَنِي هجرًا طويلا وما عـوَّدتَنِـي من قبلُ ذاكا
مختارات من شــــــعره :
و ها هو ينفذ الي افلاك و فلسفة المعري التأميلة في نظرة الي منطوق الحياة مخاطبا الأنا و الأيام و الموت في وحدة فنية عضوية كاملة الوقائع فيقول البهاء :
تعيشُ أنتَ وتبقى أنا الذي مُتُّ حقا
حاشاكَ يا نورَ عَني تلقى الذي أنا القى
قد كان ما كان مني واللهُ خَيرٌ وأبْقى
ولم أجدْ بين موتي وبين هجرك فرقا
يا أنعم الناس بالاً إلى متى فيكَ أشقى
سَمعْتُ عَنكَ حَديثا ياربّ لا كان صِدقا
حاشاكَ تنقُض عهدي وَعُرْوتي فيكَ وُثقى
وما عَهدتُكَ إلا من أكرمَ الناس خُلقا
يا ألفَ مَوْلايَ مَهْلا يا ألف موْلايَ رفقا
لك الحياةُ فإني أموتُ لاشكّ عشقا
لم يَبقَ مني إلا بَقيّةٌ ليس تبقى
—— 
و مع موال الغزل ينساب البهاء شارحا صداحا كالبلبل الغرد بين أفنان الحياة في اشراقة تحمل منعطف يسير مع مسار القلب يتدفق بالشوق و الجمال في اسقاطات تلوح بالحب العميق فيقول البهاء :
اقرأ سلامي على مَن لا أسمّيه ومَن بروحي منَ الأسواءِ أفديهِ
ومَنْ أُعرضُ عَنهُ حينَ أذكُرُهُ فإن ذكَرْتُ سواهُ كنتُ أعنيهِ
أشرِ بذكْريَ في ضِمن الحَديثِ له إن الإشارةَ في مَعنايَ تكفيِهِ
وأسألهُ إن كانَ يُرضيه ضَنى جسدي فحبّذا كل شيء كانَ يرضيهِ
فليت عين حبيبي في البُعادِ تَرى حالي وما بي من ضُر أقاسيهِ
هل كنتُ من قوم موسى في محبّته حتى أطالَ عذابي منهُ بالتيه
أحببتُ كل سميّ في الأنام لهُ وكلّ مَن فيه معنى من مَعانيهِ
يغيبُ عني وأفكاري تُمثلُهُ حتى يُخيّل لي أني أناجيهِ
لا ضَيمَ يَخشاه قلبي والحبيبُ بِهِ فإنّ ساكِن ذاك البيتِ يَحميهِ
من مثل قلبي أو من مثل ساكنه الله يَحفظُ قلبي والذي فيهِ
يا أحسنَ الناس يا مَن لا أبوح به يا من تجنّى وما أحلى تجنّيهِ
قد أتعس الله عينًا صرتَ توحشها وأسعد الله قلباً صرتَ تأويهِ
مولاي أصبح وَجدي فيكَ مُشتهرًا فكيف أستُرُهُ أم كيف أُخفيهِ
وصارَ ذِكريَ للواشي بهِ وَلعٌ لقد تكلّفَ أمرًا ليس يَعنيهِ
فمَن أذاعَ حديثاً كنتُ أكتُمُهُ حتى وَجدتُ نسيمَ الرّوْض يرويهِ
فيا رَسولي تَضرّعْ في السؤالِ لهُ عَساكَ تَعطِفُهُ نَحوي وتَثنيهِ
إذا سألتُ فسَلْ مَن فيهِ مكرُمَةٌ لا تَطلُبِ الماءَ إلا مِن مَجاريهِ
هذه كانت تغريدة من العصر الايوبي لشاعر الغزل الرقيق ” البهاء زهير ” الذي جمع معجم الحب و الغزل مع قيم جمالية فلسفية تصور مناظر الحياة في تلاقي و تقارب بين شوق وحنين برغم ما أصابه من معاناة فهو ينفلت من التشاؤمية متجاهلا لكل الأحزان و يعزف لنا منظومته في العشق و الغرام صدي لتلك الحياة دائمًا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى