قصة

زهرة برية

منى أحمد البريكي

لم تكن علاقتي بأمي علاقة بنت عادية بوالدتها.فقد اتخذتها أختا وصديقة مقربة.ولأنها كانت مثلي بنتا وحيدة فقد اطمأنت إلى هذه الصداقة العفوية التي نشأت بيننا منذ وعيت الظواهر من حولي.وكنت أطرح عليها أسئلتي الكثيرة عن كل ما يعترضني من غموض.فأجد عندهاالإجابات الشافية لتوقي للمعرفة خصوصا وأنها كانت مربية قديرة.وكان لا يقيني بطش أخي الأكبر مني غير تصديها الدائم لنزقه وغيرته مني.فلم أكن أتشارك معه هوايات و لا ألعابا ولا أنافسه إلا على حبها لنا وحبنا الكبير لها .كيف لا وقد تحملت مسؤوليتنا كاملة في غياب والدنا الذي زارته المنية باكرا وتركنا أمانة بين يديها؟تحملتها بجلد وتبصر.
كانت “زهرتي”كما يحلو لي أن أسميها. كسنديانة شامخة تعانق أحلامها السماء. وكنا نلجأ لدفء أغصانها الوارفة أيام الزمهرير.فقد كانت تجمعنا بعد كل امتحان لتقيم نتائجنا قائلة:”عزيزي . تعرفان أنني عن حبكما ما تهاونت يوما.وعن تضحية بذلتها لأجلكما عن طواعية ما توانيت لحظة.و كان شرطي الوحيد نجاحكما أضعه تاجا يكللني.فما رأيكما فيما حققتماه؟هل أنتما راضيان كل الرضا؟ أنا أعتبر تفوقكما أجمل الهدايا فهل أهديتماني تميزا و مراتب أولى؟”
لقد كانت تجيد مفاوضة عقلينا الصغيرين اللذين يرنوان للنور والمعرفة بشدة حينا وأحيانا بلين ورفق.فأضاءت من إشراقها قلبينا المتعطشين.وشحذت همتنا بعزم لا يلين.
كانت تستقبلنا يوميا بأنفاس أعياها الركض في أرجاء بيت فسيح دون تذمر؛ والإبتسامة لا تغيب عن محياها.
وكانت قامتها تنحني يوما بعد يوم لتتسامق قامتانا.إلى أن شب كل منا عن الطوق.وغرد عصفوراها اليافعان حين أوان الرحيل إلى بلاد ظنناها أكثر دفء وأمنا.ولم تعد زهرتنا دالية نستظل بفيئها.إلى أن رحلت واقفة دون أن يسندها أحدنا.بعد أن نخر المرض الخبيث عظامها بتؤدة وحاربته بصبر ورباطة جأش المقاومين الاقوياء.
اليوم وأنا أجلس في غرفة مكتبها بعد غياب سنوات مرت ثقالا في غيابها.وأتصفح دفتر مذكراتها لأول مرة. فأدرك كم كانت رفيقتي وزهرة عمري أما مليئة بالتفاصيل الصغيرة. فتنتابني نوبة غضب أكتمه بداخلي. وألوم نفسي بشدة على كل الأيام التي قضيتها بعيدة عنها في بلاد الغربة.
فجأة تدخل ابنتي لتضع فنجان قهوتي أمامي مرتبكة وهي ترى دموعا حارة تغمر وجنتي؛وأنا أحدق بعينين متورمتين وقد أسقط في يدي وأنا أقرأ ورقة مطوية كانت مخفية تحت جلد مغلف المذكرات:”أنا ممتنة للقدر الذي أسعفني لأربي أبني. وأوصلهما إلى بر الأمان. وأكون أما حقيقية لهما رغم عقمي.”

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى