دراسات و مقالات

رســـــــالة الي الله — الشاعر محمد القليني

السعيد عبد العاطي مبارك

طردوني من العمل
وقالوا: اذهب
واعمل عند الله.
وها أنا يا رب !!.
————-

( أنا أكره الشعراء كثيراً/ خصوصاً حين يقضمون أظافر الليل مثل فتاة خائبة/ الشعراء الذين يقذفون الأعداء بالمجاز بدلاً من القنابل)).
(( لماذا يا الله لم تخلقني شجرة وخلقتني شاعراً/ حين أتحدث تتساقط من فمي كل حبيباتي السابقات)).
(( حين أموت لا تحملوني إلى القبر مباشرة/ أريد أولاً أن أشاهد زوجتي وهي تلقي كتبي/ في أول عربة روبابيكيا تمر أسفل نافذتها)).
هذا شاعر له طعم خاص يعايش قضايا المجتمع يصفها بأسلوب ساخر يتهكم من كل النقائص التي تنال من الانسان فيرسل ومضاته طلقات من الرصاص نحو كل متعجرف رسالة تبغي التحول الي القيم و الجمال هكذا !!.

و شاعرنا تعود جذوره الي أقليم كفر الشيخ لكنه نزح الي البحيرة يحمل ذكريات العمر الجميل كما فعل من قبل ” فاروق جويدة ” أيضا .
و كتاباته ساخره فهو يمثل الجناح الثاني مع ” بيرم التونسي” في محاكاة الشعر رصدا للخريطة الابداعية بابعادها وزواياها مع استيعاب المدنية الحديثة في تجربته الشعرية التي تمخضت عن ملازمة مسلسل البؤس مع الانسان .
و يتلاقي مع شعر الشاعر العراقي الكبير أحمد مطر في موضوعاته التي تمس وتر الحقيقة الغائبة في فلسفة جمالية تكشف لنا حجم المعاناة .
و من ثم نتوقف مع الشاعر الساخر ” القليني ” الذي يجعلنا نسير معه في خطين متوازيين و ” بيرم التونسي” ، فكلاهما رسم بشعره وجه و ملامح المجتمع ، و شخص أهم القضايا التي تؤرقه ليل نهار ، حتي ينتظر أمل الحصاد ، و يقدم القليني لنا صور فنية بديعة كل يوم تكشف لنا مدي عبقريته في رصد و تناول الأحداث ، و التي من خلالها ينشد رسالة الانسانية مع ميزان العدل فجاءت بمثابة لوحات و ظلال لمرايا القيم و الجمال معا !!.
نشــــأته :
——-
و شاعرنا محمد ابراهيم القليني نزحت أسرته من قلين كفر الشيخ و استقرت بدمنهور البحيرة .
و قد درس في ثانوية معاذ بن جبل و تخرج في كلية حقوق جامعة طنطا .
و ما زال يقيم في دمنهور البحيرة .
و قد صدر له عدة دواوين منها :
—————————–
= الديوان الأول بعنوان “أركض طاويا العالم تحت إبطه” عن دار العين٬ وفاز بجائزة الدورة الــ48 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب فرع شعر الفصحى.
= الديوان الثاني بعنوان “سقط شيء من شيء”.
و قد اخترت له ثلاث قصائد الأولي بعنوان ” طردوني من العمل ، الثانية ” طلاق ” الثالثة ” أتوبيس النقل العام ”
مختارات من شــــــــــعره :
————————
مع رائعة القليني ” طردوني من العمل !! ” يبث مدي الروتين و التحكم الذي يمارسه صاحب كل سلطة فيعقد الناس – العامل – و يجعل هموم الحياة تفترس الأحلام و لا يجد منصفا و القانون في غياب فيبث شكواه الي الله و يعيش الذل و الفقر و الحرمان فيتضرع بقصيدته الي الرحمن … يقول فيها القليني :

طردوني من العمل
وقالوا: اذهب
واعمل عند الله.
وها أنا يا رب
محمد إبراهيم القليني
أربعة وثلاثون عاما
متزوج
وأعول طفلين
وأرغب في العمل لديك..
أنا أجيد الكثير من المهارات
كالطبخ مثلا..
لذلك يمكنني أن أعمل لديك طباخا
أقطف نجمتين وأعجنهما جيدا
وأضيف إليهما ماء سحابة عذبة
ثم إنني صبور جدا
ويمكنني الانتظار حتى تطلع الشمس
وتقوم بتسوية العجين.
سأحمل الطعام بنفسي
وأطوف على الفقراء الذين ناموا بلا عشاء
وأضع الكثير منه
على وسائدهم المبقعة بالخيبات.
قبل طردي كنت أحمل البضائع
وأنقلها إلى المخازن الواسعة
فلماذا لا توظفني لديك شيالا؟
سوف أحمل السحب على كتفي
وأظلل بها رؤوس الأرامل
اللواتي يبعن الخضار في شوارع مدينتنا..
أنا قوي يا الله
يمكنني أن أحمل جبلا عظيما لأثبت به
قلب امرأة غرق ولدها
وهو يحاول الوصول إلى أحلامه
التي تنتظره على الجانب الآخر من البحر.
ثم إنني أجيد التفاوض
ولدي مهارة عقد الصفقات
مما يؤهلني لاقناع الشيطان
بأن يكفر عن ذنبه ويسجد لك..
ربما بهذا يدخل كل البشر الجنة..
أنا أخاف من النار
منذ أن احترق قلب أبي وهو يبحث
عن رغيف لطفله الجائع..
أطعموني بعدها آلاف الأرغفة
لكني مازلت جائعا يا الله.
في الأعياد
أنفخ (البلالين) لطفلي
فهل يؤهلني ذلك للعمل لديك
كنافخ بوق؟
سأكون رقيقا جدا
وسأنفخ ببطء
ولن أرهب الموتى إذ يقومون مع النفخ..
بل ربما أستبدل الناي بالبوق
وأعزف لهم ألحانا مبهجة.
آه.. نسيت أن أخبرك
أنا أجيد الكتابة
وأفكر في أن أعمل كملاك
يسجل كل ما يفعله رجل ما..
اختر لي رجلا يا رب
شريطة أن يكون غنيا..
سأجلس فوق كتفه الأيسر
وأسجل كل سيئاته..
أريد أن أذهب معه إلى الفنادق الفاخرة
وأكتب في سجله: إنه يضاجع امرأة بيضاء
شعرها أسود
وعيناها عسليتان
وجسدها لين مثل الإسفنج
ولديها كومة من الأطفال الجوعى
يلعبون في حي شعبي
ريثما تعود إليهم بالطعام.
أريد أن أذهب معه إلى حانة..
أنا لا أشرب الخمر يا الله
فنحن الفقراء نسكر من مشاكلنا
لكني أريد أن أعرف
كيف يسكر الأغنياء؟.
كثيرا ما قلمت أظافري
فلماذا لا تجربني في تقليم أظافر الشمس..
لقد طالت يا الله
لدرجة أنها تغرسها في رؤوس العمال
الذين يعملون في المصانع البعيدة..
العامل من هؤلاء
يعود إلى بيته برأس متورم
بينما أصحاب المصانع
يحصون أرباحهم في المكاتب المكيفة..
لقد طردوني يا الله
وها أنا ذا
محمد إبراهيم القليني
أربعة وثلاثون عاما
متزوج
وأعول طفلين
وعاطل عن العمل
فهل لديك وظيفة لي؟
………

و يقول القليني في رائعة اخري بعنوان ” طلاق ” يروي لنا مسلسلا لا يتوقف لحظة كالوحش الذي يفترس صوت الحياة القوي فيترك شبح المخاوف تسبح ليل نهار تهدد كيان الأسرة الصغيرة و الكبيرة معا قضية المجتمع الساخنة :
طلاق
_______

أبي وأُمّي وَقّعا وَرَقةَ طلاقِهما
قالت لي أُمّي: الطلاقُ ليس سيِّئًا كما تظُنُّ
وقال لي أبي: أصدقاؤك لديهم بَيتٌ واحدٌ
وسيكونُ لك بيتانِ يا محظوظُ.
ظلَّت غُرفتي في بيتِ أمّي كما هي
وجهّزَ لي أبي غُرفةً في بَيتِهِ الجديدِ.
بمِنشارٍ قديمٍ
قَسَما جسَدي إلى نِصفَينِ.
تركتُ نِصفي الأيسرَ عِندَ أُمّي
حَيثُ العينُ اليُسرَى
والذِّراعُ اليُسرَى
والقدَمُ اليُسرَى.
وذهَبتُ بعَينِي اليُمنَى
وذِراعي اليُمنَى
وقدَمي اليُمنَى
معَ أبي.
لكنَّ أبي كان يصفَعُني
لو حدَّثتُهُ عن اشتِياقي
إلى نِصفِي الآخَر.
وأُمّي كانَت تَحبِسُ نِصفِي
داخِلَ غُرفةٍ مُغلقةٍ
كي لا يجتَمِعَ بالنِّصفِ الذي يَملِكُهُ أبي.
أمّا مُدَرِّسُ الألعابِ
فَقَد رَفَضَ انضِمامي إلى فَريقِ كُرةِ القَدَمِ
بِدَعوَى أنَّهم يَحتاجونَ إلى لاعِبٍ بقَدَمَينِ
يُراوِغُ المُنافِسينَ بقَدَمٍ
ويُمَرِّرُ الكُرَةَ بالقَدَمِ الأُخرَى.
وتَرَكَتني فَتاتي
لأنَّ حِضني لا يكُونُ دافِئًا
بذِراعٍ واحِدةٍ.
ظلَّت عَينِي اليُمنَى تبتَسِمُ لأبي
وعَينِي اليُسرَى تبتَسِمُ لأُمّي
لم أستَطِعْ أن أقولَ لهُما:
لديَّ بَيتانِ
وغُرفَتانِ
وسَريرانِ
لكِنَّ رُوحي تنامُ في الشارعِ.
ديوان: سقط شيء من شيء
هيئة الكتاب 2018
___

و يقول القليني في قصيدة ثالثة يخاطب الواقع اليومي من خلال حركة الحياة فيختار ” أتوبيس النقل العام ” نموذجا يحكي مدي المعاناة … :

«أوتوبيسُ النقلِ العامِّ
لا يُقِلُّ الذِّكرياتِ»
قالَ الكُمساريُّ هذه العِبارةَ
لذِكرَى تُحاوِلُ اللِّحاقَ بالأوتوبيسِ.
بَكَتِ الذِّكرَى في مُنتَصَفِ الشارِعِ
كادَت السياراتُ أن تدوسَها
فسَحَبَها شَيخٌ إلى الرَّصيفِ
وسأَلَها: لماذا تبكين أيتها الذِّكرَى؟
قالَت: أنا تائهةٌ
سقطْتُ مِن رأسِ صاحِبي
ولا أعرِفُ عُنوانَهُ لأعودَ إليه.
كما أنَّ هُناكَ أطفالَ شوارعَ،
هناك أيضًا ذِكرياتُ شوارعَ.
الذِّكرَى قد تكونُ جُملةً ما
أو نظرةً ما.
ذاتَ ليلةٍ باردةٍ سقَطَت ذِكرَى
من رأسِ رجُلٍ يقودُ سيارةً.
كانتِ الذِّكرَى نَظرةَ حُبٍّ
وَدَّعَ بها طِفلَهُ النائمَ.
ظلَّتِ الذِّكرَى ترتَجِفُ في الشارعِ
حتى شاهَدَتِ امرأةً
طلَّقَها زَوجُها لأنها عاقِرٌ.
قفَزَتِ الذِّكرىَ في رأسِ المرأةِ
بَحثًا عنِ الدفءِ الذي فقَدَتهُ.
عادَتِ المرأةُ إلى بَيتِها
وفي يدِها قطارٌ يَسيرُ على قُضبانٍ بلاستيكيةٍ
ونادَت بشوقٍ: استيقِظْ يا طِفلي الجميل
لقد عادَت ماما
ومعها هدِيّةٌ لكَ.
أهلُ المرأةِ
اتَّهَموها بالجُنونِ
وفي الحقيقةِ لا يوجَدُ أشخاصٌ مَجانينُ
وليسَ ثَمّةَ شَيءٌ
يُدعَى «الجنونَ»
كُلُّ ما في الأمرِ أنَّ بعضَ الأشخاصِ
يَعيشونَ بذكرياتِ أشخاصٍ آخَرينَ.

ما أجمل رحلتنا مع الشاعر الساخر ” القليني ” الذي يجعلنا نسير في خطين متوازيين مع ” بيرم التونسي” ، فكلاهما رسم بشعره وجه المجتمع و شخص أهم القضايا التي تؤرقه ليل نهار ، حتي ينتظر أمل الحصاد ، و من ثم يقدم القليني لنا صور فنية بديعة تكشف لنا مدي عبقريته في تناول الأحداث ، و التي ينشد من ظلالها مرايا القيم و الجمال ، مع مولد حركة الحياة دائما .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى