دراسات و مقالات

داكرة الحضور ومركزية الصوت في النص

عبدالرحمن الصوفي

العنوان ( متاهة الحرف ) من القشرة إلى اللب ——————
القصيدة المعنونة ب ( متاهة الحرف ) بصريا ( القشرة ) تتكون من كلمتين ( متاهة ) و ( الحرف ) ركبتا تركيبا إضافيا ، بحيث يعد العنوان أول تجليات الخطاب التي يقابلها القارئ قبل أن يشرع في قراءة النص . ومع أن وظيفة العنوان الأساسية هي التحديد والتسمية ، فإن دلالة لبه تؤسس بصفته دالا يكتمل بمدلولاته ، أو أفقا يفتح المجال أمام تموقع القارئ ، بحيث لا تلغيه وتجعله مشاركا في عملية إنتاج النص وتأويل احتمالاته المتحركة . العنوان هو رسم من جهة وضعه ، ورسم من جهة تفسيره ، لذلك ينفتح بالضرورة على آليتين متكاملتين ، ترتبط الاولى بقصيدة العنوان ، بينما تؤسس الثانية دلالة العنوان ، ولهما معا دوائر دلالية نذكر منها :- دائرة دلالية مفتوحة – ودائرة دلالية ذاتية تحيلنا على ذاكرة الحضور للشاعر في النص ، وهذه الأخيرة ( ذاكرة الحضور ومركزية الصوت في النص ) هي عمق وصلب دراستنا النقدية المستقطعة لقصيدة ( متاهة الحرف ) للشاعر ( سعيد مختال ) .
—————————————————————

-بسم الله الرحمن الرحيم

ملاحظة : المقصودة بدراسة ذرائعية مستقطعة ( قراءة النص بمدخل واحد من مجموعة مداخل تتضمنها النظرية الذرائعية ، هذا لا يعني أن الناقد أبعد المداخل الاخرى من ذهنه ، بل هي سراجه المنير الذي يضيء النص أمامة ، والمداخل الأخرى حاضرة دوما تساعد الناقد وتقدم له مفاتيح القراءة المستقطعة ، والهدف من الدراسة المستقطة هو تجنب طول الدراسة التي قد تتجاوز الخمسين صفحة ، وتجنب طول المدة الزمية كذلك بغية خدمة أكبر عدد من المبدعين ) .
نعتذر لاصدقائنا فضغط العمل وضيق الوقت هو الذي يوقف دراساتنا النقدية أحيانا . ونعود للنقد كلما توفر لنا الوقت .

—————القصيدة كاملة بقلم الشاعر ( سعيد مختال ) ——————–

متاهة الحرف

ومازال حرفي
يجرني إلى متاهات
قال لي مازحا
ضاعت الأمنيات
بين ركام الكلمات
فأرضي عاقر
لا تنجب سيدات
حدائقي عذارى
بئيسة حزينة شهباء
سقاها مدادك
بدموع مصلوبة
على جدار الذكريات
تسللت خفية
إلى سلة المهملات
لعلي أجد حرفا غيره
لا يقبل التيه بين الممرات
أو يحلق عاليا
بحثا عن مكرمات
ثارت حافظته
كيف تدخل بدون استئذان
نسي أن المداد حبري
وأن الريشة فراشتي
تسمو كيف تشاء
وأن بحر مدادي
مليء بالأعطيات
فأجبته
يا حرفي التائه
إذا ما انتهت اللعبة
خبرني
من سيهبك غيري النجاة

س.م
29/10/2018
———————ذاكرة الحضور في النص —————————

يبدو جليا مركزية الصوت في النص الذي بين أيدينا ، أي تكريس صورة الصوت الواحد عبر الخطاب الشعري ، فلا توجد في النص لغة اخرى غير لغة ذات الشاعر ، من خلال مفتاحية ودلالة ياء المتكلم المتصل بالاسم ( حرفي ) ، ( أرضي ) ، ( حبري ) ، ( فراشتي ) ،( مدادي ) والفعل ( يجرني ) ، ( خبرني ) والحرف ( لي ) ، فلا توجد لغات أخرى تمثل طبقات معينة في المجتمع لها صوتها ، أو لها أيديولوجيتها ، فالخطاب الشعري في القصيدة يكفي ذاته بذاته ، ولا يفترض ملفوظات الآخرين خارج حدوده .

يقول الشاعر :

وما زال حرفي
يجري إلى متاهات
قال لي مازحا
ضاعت الأمنيات
بين ركام الكلمات
فأرضي عاقر
لا تنجب سيدات

ومما يكرس مركزية صوت الذات المعنى المتماسك النصي ، وهذا التماسك طبعا ينحاز أكثر إلى مركزية صوتية ، خصوصا حين يصدر الصوت عن ذات واحدة ذات الشاعر ، وقد أوضح لوسيان كولدمان أن ” العنل الفني أو الأدبي يكون ناجحا من الناحية الجمالية عندما يدل على معنى متماسك يعبر عنه بشكل مناسب ويكون المعنى متماسك حين يتطابق فيه الموضوعي مع الذاتي ” .
ويبدو تماسك المعنى في القصيدة من خلال الرؤية الفردية للذات الساردة ، ذات اتجاه واحد تكرس مركزية الصوت ، ويتضح ذلك في البنى التصويرة التي اعتمدت صيغ وصور بلاغية وانزياحات متعددة ( ليست موضوع دراستنا النقدية الذرائغية المستقطعة ومع ذلك سنوضح مفهوم الانزياح النصي ) .

ويضيف الشاعر قائلا :

حدائقي عذارى
بئيسة حزينة شهباء
سقاها مدادك
بدموع مصلوبة
على جدار الذكريات
تسللت خفية
إلى سلة المهملات
لعلي أجد حرفا غيره
لا يقبل التيه بين الممرات
أو يحلق عاليا
بحثا عن مكرمات

لقد حاول رومان جاكبسون تدقيق مفهوم الانزياح فسماه خيبة الانتظار ، أي أن المتلقي يحمل رصيدا من المادة الخام اللغوية سابقة قبل تلقيه النص الجديد ، وتبدو دهشته إذا كان النص الجديد الذي يتلقاه يختلف عما لديه من رصيد ، بحيث يخيب ظن المتلقي في مطابقة معاييره السابقة مع معايير العمل الجديد ، وهذا هو الأفق الذي تتحرك في ضوئه الانحرافات أو الانزياحات عما هو مألوف .
النص الذي بين أيدينا السارد الذاتي يعتمد ينية الانزياح على مستوى العالاقات الجزئية النصية التي تتآزر في إطار البنية الكلية الواضحة وهذا نا يؤدي إلى وضوح الدلالة الكلية للنص في النهاية . بحيث لا تفصل بين طرفي الصورة الشعرية فجوة واسعة ، لأن الشاعر يتلفظ عناصر الصورة من الطبيعة المحيطة به والواقع المادي من حوله ، فاتجه نحو التشخيص وخلق عالم للمحاورة .

يقول الشاعر في قصيدته :

ثارت حافظته
كيف تدخل بدون استئدان
نسي المداد حبري
وأن الريشة فراشتي
تسمو كيف تشاء
وأن بحري مدادي
مليء بالمعطيات

مما يكرس مركزية الصوت في القصيدة البنية الزمنية ، حيث نرى فيه التفاتا من الحاضر إلى الماضي أو من الماضي إلى الحاضر ، أو من الحاضر إلى المستقبل ، حيث نرى تقنية الارداد نسقا معتمدا في القصيدة ، ونعني بالارتداد العودة إلى نقطة زمنية تنتمي للماضي لها ثقلها الضاغط على السارد ، وهو السبب الذي أدى غلى فتح حوارية بين الماضي والحاضر في النص ( قال لي مازحا ) ( فأجبته ) . تنسحب الدلالة على الزمنين في النص ، ويفرق هايدغر بين الانقضاء ( ما كان ) والماضي ، فالماضي تعبير بصدق على الموجودات التي ليست من نوع الموجود ( الإنساني / المتواجد ) ، بحيث لم يمض بل انقضى أو كان ، أي ان الكينونة لا تزال باقية ، وما قد كان لا يزال في الحقيقة كائنا .

ويضيف الشاعر قائلا :

فأجبته
يا حرفي التائه
خبرني
من سيهبك غيري النجاة

———————— خاتمة ——————-

هناك نسقية داخلية وخارجية تربط العنوان بالنص ، بحيث يمكن تحليل العنوان على مستوى ينظر إليه باعتباره بنية مستقلة لها اشتغالها الدلالي الخاص ، والثاني مستوى تتخطى فيه الإنتاجية الدلالية لهذه البنية حدودها متجهة إلى العمل ومشتبكة مع دلائليته دافعة ومحفزة إنتاجيتها الخاصة بها . ونشير إلى أنه بالرغم من الضمير المعتمد هو ضمير المتكلم ، فإنه مجرد انتقال انزياحي أي من التعبير الفردي إلى الجماعي ، وهذا يكرس مركزية الصوت كما أشرنا ولا ينحرف بها إلى بنية درامية . السارد في القصيدة ينفلت من ضغط اللحظة الحاضرة ووطأتها إلى لحظة تقع في المستقبل تكون فيه الأمنية متحققة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى