قصة

حين يرحلون .

غدير محمد وليد عبارة

الهواء ثقيل …بصعوبة يسحب أنفاسه المتلاحقة… يتسلل من منزله …يتخذ الشارع منفذا له من حر يهاجم المدينة كل صيف …فقدت المدينة الكثير من بهجتها… تشابهت الأيام والليالي في مدينة تجتر آلامها كل ثانية تمر … تجره قدماه نحو المقهى القديم … يجالس السمار فيه …يخرج ورقة يحاول الكتابة …تستعصي عليه الكلمات …يرهف السمع لأحاديث المحيطين … أزمة السكن …أزمة التعليم …أزمة تدهور الأوضاع الصحية …الصراع العربي الإسرائيلي…. تصريحات الأمم المتحدة…اجتماع جامعة الدول العربية تصريحات الرؤساء التافهة …شعارات وشعارات …وشعوب تموت ببطء شديد …يزداد ثقل الهواء فوق صدره …يراها تقترب بحذر من المقهى …صبية نحيلة …تلتهمها أعينهم الجائعة …تقترب أكثر …ثمة بقايا ورود ذابلة في يديها …
_ يا ورد من يشتريك …هدية لست الحبايب …هدية لزوجتك …خذها لصديقتك…
_ من يشتري الورد مني قبل أن يموت…
_ تعالي يا صغيرتي
تقترب بحذر ..تلمع عيناها …تأمل أن يأخذ منها كل الورود …
_ بكم الوردة ياصغيرة
_ الواحدة بخمس وعشرين
_ كم وردة بقيت لديك
_ خمسة..
_ لكنها ذابلة
_ نعم أستاذي تجوب معي الطرق منذ الصباح
_ أستاذي ؟؟
_ نعم أعرفك جيدا وقرأت كل كتبك وقصصك ورواياتك التي كتبت …سمعت صرخات احتجاجك الدائم بين ثنايا أعمالك أستاذي …حلقت كثيرا مع بطلات قصصك …وددت ذات يوم لو كنت إحداهن
_ من أنت ياصغيرة ؟
_ نصيحتي لك اقترب من نبض الشارع أكثر …اقترب دون خوف …ثمة قصص كثيرة وراء النوافذ لم تكتب بعد …ثمة موجوعين يبحثون عن سعادة لم تعرف يوما طريقها إليهم …ثمة مفقودين …مهمشين على قارعة زمن لا يرحم…
أستاذي كتبت عنهم عن آلامهم …لكني فقيرة لا أملك ثمن طباعة ما أكتب …لن يلتفت أحد لما كتبت …ما رأيك لو أعطيك حصاد السنين …أضعه بين يديك لترى حياة جديدة لم تعرفها يوما …لم تخطر على بالك يوما… صفقة رابحة …أعطيك كتاباتي وورداتي الخمس بسعر وردة واحدة
_ بسعر وردة واحدة…
_ لا تتعجب فأنا أحتاج المال لأكمل به ثمن الدواء …دفتري الذي أكتب به قصص أمثالي ليس معي …أعطيك الوردات الخمس وتعطيني ثمن وردة واحدة وغدا نلتقي أعطيك كل ما كتبت …
_ وماذا أفعل لو كذبت ياصغيرة ؟
_ بكل الأحوال رابح أنت ستأخذ الوردات الخمس بسعر وردة واحدة فقط
أعجبتني الصفقة كثيرا …وأبهرتني جرأة الفتاة في عرضها المغري لي فاستجبت …أخرجت المال …أعطتني ورودها وانصرفت…قبل أن تغادر قالت لي : تعال بعد غد لتأخذ كل ما كتبت …ثم غادرت …
مضى أسبوع كامل على ذاك اللقاء ….مشاغل الحياة وضغوطها أنستني الموعد …تذكرته حين دخلت غرفتي وفتحت أدراج المكتب لتطالعني الوردات الخمس التي ماتت داخل أدراج مكتبي …
خرجت بسرعة من بيتي …ركضت بسرعة بسرعة …تعثرت …نهضت …وصلت إلى المقهى …انتظرت دقائق قبل أن يأتي النادل ليقول لي : بائعة الورد ماتت منذ يومين …قتلها المرض …منذ أسبوع مرت وتركت لك هذا المغلف يا سيدي…
لم أستوعب ما قال…أمسكت المغلف بيد مرتجفة …فضضته على عجل وأنا لا أصدق موت بائعة الورد الصغيرة …
كانت أول عبارة مكتوبة في أول ورقة …(ذات يوم يرحل المهمشون أمثالي …وتعيش كلماتهم إن قدر لها الحياة )
انحدرت دموعي بشدة …تأبطت المغلف …عند أول مفترق طرق صرخت : تعسا لكل ما كتبت .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى