دراسات و مقالات

حقوق الوالدين

الدكتور محمد القصاص

لا أدعي لنفسي قصب السبق ، حينما عمدتُ إلى كتابة مقالي هذا عن موضوع ليس جديدا على أحد من الناس ، وإنما هو موضوع يعرفه الجميع ويعلمون ما به من أحكام ، منها ما وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنها ما ورد بمحكم التنزيل قرآنا عربيا .
لكن كثيرا من الناس وكما نراهم في هذه الأيام يفرِّطون بحقوق الوالدين تفريطا مؤلما ، ولا يولون الوالدين إما أحدهما أو كلاهما ، أي اعتبار لأنّ من أصبحوا بمعزل عن القيم والأخلاق والتربية الإسلامية السمحة ، التي أعطت للوالدين حقوقا لا يمكن التساهل بها أو التغاضي عنها بأي حال من الأحوال .
حياتنا كبشر انفطرت على وتيرة واحدة ، ونمط محدد لا يمكن التجاوز عنه ، منذ أن خلق الله آدم (عليه السلام) وحتى يومنا هذا ، وبموجب هذا النمط فمن المؤكد أن لا يكون الآدمي بعيدا عنه ، فإما أن يكون تبعا لذلك أبا أو ابنا في كلِّ الأحوال ، ولن تتغير هذه الفطرة وهذه الأنماط ما دامت الحياة .
إنَّ كلَّ إنسان في هذا الكون، لا بد له من أن يعيش هذه الأدوار، ولا بد لكل منا أن يتقن دوره فيها .
فحينما يتولى الإنسان في مرحلة ما من مراحل حياته دور الأب ، هناك ستكون مهمته شاقة ومسئوليته كبيرة وصعبة ، ولا يمكنه أبدا التخلي عن واجباته ودوره في هذه المرحلة تجاه أسرته وأولاده وحتى مجتمعه ، ولا شك أن كل منا يدرك تماما أن للوالد دور أساسي في تربية الأبناء وتنشئتهم التنشئة الصحيحة ، والسهر على راحتهم ، وتوفير العيش الكريم لهم ، بل وأبعد من ذلك فإنه سبب رئيس في استقامتهم أو انحرافهم في حياتهم المستقبلية .
إنَّ للوالدين دور كبير في سبب وجود الإنسان ، فالأب والأمُّ هما أساسيان في تكوين الأسرة ووجودها في الأصل ، ولكن هل يتساوى الوالدان بالحقوق والواجبات أم أنَّ هناك خصوصية معينة لكل منهما ؟
هذا هو محور مقالي لهذا اليوم . ففي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – من أحق الناس بحسن صحابتي ؟
ففي باب بر الوالدين وصلة الأرحام أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه- قال:((جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ -يعني: صحبتي-، قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)). متفق عليه.
وفي رواية: يا رسول الله، من أحق بحسن الصحبة؟، قال: ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم أدناك أدناك)).
فهذا الحديث يبيّن فضل الأم ومنزلتها، وأنَّ الأم لها من الحق في هذا الجانب وهو حسن الصحبة ثلاثة أضعاف ما للأب، والمقصود بحسن الصحبة: حسن المعاشرة، والملاطفة، والإحسان والبر، وذلك أن الأم تحملت الحمل وآلام الولادة، وكذلك أيضاً الرضاع والحضانة، كل هذا شقيت به وتعبت.
والأب كما ذكر فيما قرأت أيضا : هو سبب في وجود الإنسان، وهو الذي يبذل ويتعب، ولكن الأم تحملت زيادة على ذلك هذه الأمور الثلاثة التي ليس للأب شيء منها، فهذا الإنسان حينما يكون في بطنها يعيش على دمها، وحينما يخرج تعاين الموت، وحينما يولد فإنها تقدمه على نفسها، وراحته على راحتها، وتفرح لفرحه، وتتألم لألمه وحزنه، وإذا مرض مرضت معه، وإذا صار في المدرسة فكأنها هي التي تدرس، وإذا اختبر كأنها هي التي تختبر، وهكذا حتى يتم، ثم بعد ذلك تشقى بعياله من بعده، وتجد لهم ما تجد له، كل هذا يقع للأم، فالمقصود أنها أولى الناس.
لكن هذا الحديث إنما هو في حسن الصحبة، ولهذا يقال: لو أنه تعارض أمر الأم وأمر الأب من الذي يقدم؟.
أبوه يقول: لا تفعل كذا، وأمه تقول: افعل كذا، في غير معصية الله -عز وجل-، أبوه يقول: اعمل بالمكان الفلاني، وأمه تقول: اعمل في المكان الفلاني، أبوه يقول: ادرس في الجامعة الفلانية، وأمه تقول: ادرس في الجامعة الفلانية، يطيع من؟.
من أهل العلم من قال: إن الأم مقدمة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر حقها ثلاث مرات.
ومنهم من قال: الأب، ونقل عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه سأله رجل فقال: إن أبي في السودان، والمقصود بالسودان القارة الإفريقية في ذلك الوقت، وإلى وقت قريب كان يقال لذلك: السودان، بلد السودان وما حولها، قال: إن أبي في السودان ويدعوني، يطلب مني أن أقدم إليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال الإمام مالك -رحمه الله-: أطع أباك ولا تعصِ أمك، فمن أصحاب الإمام مالك من فهم من هذا أنه قصد أنه يطاع الأب فيما لا يكون معصية للأم، يعني: أن الأم مقدمة.
ومنهم من فهم أنه قدّم طاعة الأب، والأقرب -والله تعالى أعلم- أنه في مثل هذه الأمور التي تتعلق بالتدبير فهي من شأن الولاية، والولاية إنما تكون للأب وليست للأم.
فهذا الحديث إنما هو في حسن الصحبة، فالذي يدبره هو أبوه، وليس أمه التي تدبره، فوليُّه الأب، فيجب عليه أن يطيعه في مثل هذه الأمور، إلا فيما يلحقه به ضرر أو يحصل له عنت أو نحو هذا، فمثل هذه الأمور يحصل فيها التفاهم والملاطفة والإقناع وما أشبه هذا، لكن الذي يأمره وينهاه فيما يتعلق بأموره الحياتية هو أبوه؛ لأنه هو وليه، الأب هو الذي يطالبه أن يدرس، يذهب به إلى المدرسة، يدرس في هذه المدرسة أو تلك، إلى آخره، أمه تقول: لا، أريده أن يدرس في مدرسة خاصة، ليس هذا للأم، إنما هو للأب، القرار الأول والأخير للأب، لماذا؟ لأنه هو الولي، أما في المعاشرة والمخالطة وحسن الصحبة فالأم ثلاثة أضعاف الأب من التلطف، يعني: إذا كان الإنسان مأمورًا ببر أبيه والتلطف به، والإحسان إليه، فماذا يصنع مع أمه؟، ثلاثة أضعاف، ولهذا كان ابن سيرين -رحمه الله- إذا كلّم أمه مَن لا يعرفه يظن أنه مريض، كأنه ضارع، يتضرع بصوت منخفض جدًّا، وبغاية التذلل والتواضع، هكذا يصنع مع أمه، وما كان يأكل معها؛ يخاف أن تمتد عينها إلى شيء ثم تسبق يده إليه، من شدة بره بها، فيتلطف الإنسان غاية التلطف، يقبّل رأسها، ويدها، ويكلمها بأحسن عبارة، وبألطف أسلوب، ولا يرفع صوته، ولا ينصب يده في وجه أبيه ولا أمه، ولهذا قال بعض السلف: ما بر أبويه من مد إليهما النظر، أي بحلق بهما .
هذا جاء عن عروة بن الزبير -رحمه الله-، يعني يجلس ينظر إليهما، يحدق في النظر إليهما، هذا يدل على أنه في شيء من عدم الهيبة وعدم الاكتراث، فكيف إذا كان يأمرهما: أعطني كذا، هات لي كذا؟!، هذا ما يليق، هو الذي يقوم على خدمتهما، وشئونهما ونحو ذلك.
وكما كان للأب دور كبير في رعاية الأبناء صغارا ، فإن من حقه على أبنائه أن لا يتنكبوا عنه حينما يكبر ، فالرعاية ميزة يحتاجها الصغير والكبير ، وأنت أيها الابن ستدرك ما للأب من مكانة حينما تصبح أنت أيضا أبا وتقوم بهذا الدور على الوجه الأكمل ، فكما تبر ابنك عليك أن تكون بارا لوالديك كلاهما .
فقد ورد عن رسولنا الكريم قوله : بروا آباءكم يبركم أبناؤكم (صدق رسول الله) . وكل ابن عاقّ لا بد أن يرد حوض العقوق ، وأن يشرب منه كما شرب والديه من قبل ، فكما تدين تدان .
دعوني وقبل أن أختم من أن أضيف شيئا مهما وهو ، أن الأبناء عادة ما ينسبون إلى آبائهم في القيم والكرم والشجاعة والإباء وعزة النفس والأخلاق الفاضلة والسمعة الحسنة والأصالة وحسن التربية والمكانة ، حيث يقال في العادة : هذا ابن فلان ، إنه رجل كريم ورث عن أبيه كل صفاته العالية ، ورجل على خلق كما كان والده ، لقد رباه والده فأحسن تربيته ، وبالمقابل فلم نسمع بأن قيل عن أحد هذا ابن فلانة ، (مهما علت سمعتها وكرُمَ أصلها) لقد ربته على الكرم والإباء وحسن الخلق وما إلى ذلك ، لأن التربية من حق الأب وهو المسئول عن نشأة الأولاد تنشئة قويمة ، وتربيتهم التربية الصحيحة .
وبالمقابل فقد قيل أيضا: إن هذا ابن فلان ، ينسب إلى أبيه إن كان سيئ السمعة والخلق ، وضيع النفس ، وإنه من أسوأ ما خلق الله لا تربية ولا أخلاق ولا كرامة ، إنه بنذالة أبيه ، إنه نسخة طبق الأصل عن أبيه ، وهذه حقيقة نشهدها وشهدناها كثيرا في حياتنا .
أما في القرآن العظيم ، فقد وردت الآية الكريمة :
۞ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) .
وإليك أيها القاريء العزيز أن تفسر الآية إن شئت على هواك ، أو أن ترجع إلى تفسيرها في كتب التفسير كما شاء الله لها أن تفسر .
نسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم البر والتقوى ، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، وأن يجعل ما نسمع ونقرأ سبباً وسبيلاً إلى مرضاته، وأن يجعله سبيلاً إلى العمل بطاعته، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى